عندما اندلعت الانتفاضة السورية في مارس 2011، راود الكثيرين اﻷمل في أن تنجح في اﻹطاحة بنظام بشار اﻷسد متخطية الصعوبات الضخمة التي يفرضها الواقع السوري المعقد. ولكن الوحشية الاستثنائية التي واجه بها النظام السوري الانتفاضة التي بدأت سلمية سرعان ما جرت البلاد إلى حرب أهلية أدت إلى تفجير تناقضات التوازنات الصعبة التي لا طالما استخدمها اﻷسد اﻷب للحفاظ على نظامه الاستبدادي الذي ورثه لابنه.
العناصر اﻷساسية للمشهد السوري قبل الحرب اﻷهلية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
- نظام استبدادي وراثي ظل جاثما على صدر سوريا ﻷكثر من 40 عاما، أدار خلالها الدولة وسيطر على المجتمع مستخدما أجهزة المخابرات التي طاردت اﻷفكار في صدور أصحابها، كما أنه لم يتورع يوما عن استخدام آلته العسكرية بكامل قوتها في مواجهة مواطنيه عند أي بادرة تمرد في مشاهد عنف دموي ومذابح ضد المدنيين يندر أن يسجل التاريخ الحديث مثيلا لها.
- موازييك طائفي وإثني شديد التعقيد في بلد شهد تطور المجتمعات اﻹنسانية منذ فجر التاريخ مما أثرى تجربته بخليط استثنائي من الثقافات التي لا يزال بعضها حيا فيه بعد اندثاره في أي بلد آخر منذ قرون. هذا الثراء على جانب آخر يغلف تاريخا طويلا من الصراعات والعداءات الطائفية التي تفجرت في مراحل سابقة ولكنها ظلت مكتومة لوقت طويل في ظل حكم آل اﻷسد برغم تلاعبهم بالملف الطائفي وميلهم إلى الاستعانة بطائفتهم العلوية في المناصب العليا للدولة وبصفة خاصة في الجيش وفي أجهزة المخابرات المتعددة. وهو ما أدى إلى تزايد الاحتقان الطائفي تحت السطح الخادع الذي استخدم القومية العربية كإطار ادعى ذوبان العناصر المختلفة للموزاييك السوري فيه بالرغم أن هذا الموزاييك يضم بخلاف الطوائف الدينية المختلفة إثنيات غير عربية أهمها اﻷكراد والتركمان وغيرهم.
- موقع جيوبوليتكي شديد الحساسية، يجمع بين التعقيدات التاريخية للعلاقات بين سوريا ودول قديمة بالجوار هي تركيا ولبنان والعراق، وبين وجود الكيان الصهيوني في اﻷراضي الفلسطينية المحتلة والذي لا يزال يحتل جزء من اﻷراضي السورية في هضبة الجولان المطلة مباشرة على العاصمة دمشق. هذه الحساسية لموضع سوريا نجح نظام اﻷسد اﻷب في أن يحوله إلى أحد ركائز استمراريته من خلال ترسيخ وجوده كرقم صعب في أي معادلة سياسية بالمنطقة ونسج علاقات مع القوى الدولية واﻹقليمية وحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية في توازنات دقيقة نجحت في جعل بقاء النظام ذاته ضرورة لاستمرار عدد من التحالفات اﻷساسية لدول مثل إيران وروسيا والصين، ومسألة حياة أو موت بالنسبة لحزب الله في لبنان، وبخلاف الظاهر فإن أنظمة دول كإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة والمجموعة اﻷوروبية قد تكون أكثر ارتياحا ﻻستمرار هذا النظام وتشككا في حفاظ أي بديل عنه على مصالحها رغم أنه قد يهمها تفكيك التحالفات التي تربطه بدول أخرى!
في ضوء هذه الخصائص المميزة للوضع السوري يمكن قراءة ملامح الواقع المعقد للحرب اﻷهلية في سوريا وتقدير وطأتها على المدنيين؛ ما يجري في سوريا طوال ما يقرب من ثلاثة أعوام اليوم لا يمكن إختزاله في صراع عسكري بين قوات النظام وقوات فصائل متمردة ضده. فما بدأ كعدوان لقوات النظام على المدنيين وشمل قصفا باﻷسلحة الثقيلة والطيران الحربي ضد مناطق سكنية ما زال مستمرا مع إضافة ما يتعرض له المدنيون في إطار العمليات العسكرية المتبادلة بين هذين الطرفين اﻷساسيين. ولكن الصورة أكثر تعقيدا حتى من ذلك، فانشقاقات الجيش السوري وتشكل فصائل المتمردين على خطوط طائفية وإثنية نجم عنها نشوب النزاعات بين هذه الفصائل ذاتها، ولم يتورع أي من هذه الفصائل عن قصف المناطق المدنية لمجرد كونها تحت سيطرة النظام أو تحت سيطرة فصيل معادٍ. ومن ثم فإن المدنيين في كافة المناطق السورية بغض النظر عن أي طرف يملك السيطرة عليها هم عرضة للقصف أو للمخاطر الناشئة عن تحول مناطق سكنهم لساحات قتال في إطار تبادل اﻷطراف المختلفة السيطرة عليها. إضافة إلى ذلك يستمر النظام في تعقب معارضيه ممن لم يحملوا السلاح ضده وتتعقب فصائل المتمردين بدورها معارضيها وتنكل بهم، كما تمارس بعض هذه الفصائل تصفية طائفية وإثنية ضد الأقليات وتفرض بعضها قوانين يستقونها من الشريعة اﻹسلامية يدفع ثمنها بصفة خاصة النساء وغيرهم من الفئات اﻷقل تمكينا في المجتمع.
الفارون من الجحيم
الصورة السابق توضيح ملامحها الرئيسية تفسر حقيقة أن عدد اللاجئين إلى خارج سوريا والنازحين داخلها قد بلغ حسب أفضل اﻹحصاءات المتاحة أكثر من 2.5 مليون شخص. وبينما تقدر مفوضية اﻷمم المتحدة لشؤون اللاجئين عدد اللاجئين السوريين في دول الجوار (تركيا – اﻷردن – لبنان) بحوالي 600 ألف شخص فإن التقديرات الواقعية تقفز بالرقم إلى ضعفه على اﻷقل. وتتفاوت الظروف المعيشية لهؤلاء اللاجئين بشكل كبير بين دولة وأخرى ولكنها بصفة عامة شديدة السوء، إذ تعيش الغالبية العظمى منهم في مخيمات لا تتوافر لها مقومات الحياة اﻷساسية من أمن وغذاء وماء للشرب ورعاية صحية إلخ، بخلاف أنه لا يتوافر للمقيمين في هذه المخيمات فرص الحصول على عمل يوفر لهم مصدر دخل يستعينون به على الحصول على احتياجاتهم التي تقصر المعونات المحلية والدولية عن الوفاء بها.
وفي حين لا يوجد أمام الفئات اﻷكثر فقرا بديل عن اللجوء إلى مخيمات اﻹيواء في الدول ذات الحدود المشتركة مع سوريا، يجد من يملكون ما يكفي من المال أو من ممتلكات يمكنهم بيعها سبيلهم إلى الدول اﻷخرى عن طريق وسائل النقل الجوي والبحري ومن بين هؤلاء ما يقرب من 300 ألف لاجئ إلى مصر حسب التقديرات الرسمية المصرية، منهم أكثر من 125 ألف لاجئ مسجلين لدى مفوضية اﻷمم المتحدة، يضاف إلى ذلك حوالي 5000 إلى 6000 لاجئ فلسطيني من المقيمين في سوريا وإضطروا إلى مغادرتها فانتهى بهم المطاف في مصر.
اللاجئون يدفعون ثمن تقلبات السياسة
تقلبت ظروف اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب اﻷهلية في سوريا إلى مصر مع تقلب اﻷوضاع السياسية الداخلية في مصر والتي شهدت سيولة استثنائية في تاريخ مصر المعاصر منذ إندلاع ثورة 25 يناير واﻹطاحة بالرئيس المخلوع. وقد اختلف تعامل الحكومات المصرية المتعاقبة مع اللاجئين السوريين والفلسطينيين مع اختلاف النظام القائم. ففي عهد المجلس العسكري وبرغم عدم رغبة النظام حينها في إتخاذ موقف سياسي واضح تجاه الثورة السورية إلا إن تدفق اللاجئين السوريين إلى مصر لم يواجه بعقبات كبيرة ولقي تعاطفا شعبيا متوافقا مع أحلام التغيير الشامل في المنطقة العربية بصفة عامة. ولم يواجه كثير من اللاجئين السوريين حينها مشاكل كثيرة مع السلطات المصرية إلا في حالة ممارسة بعضهم لنشاط سياسي مناوئ للنظام السوري وخاصة في حالات التظاهر أمام السفارة السورية بالقاهرة أو محاولات اقتحامها والتي تم ترحيل بعض اللاجئين السوريين على خلفية بعضها.
مع صعود اﻹخوان المسلمون إلى السلطة وتولي الرئيس السابق محمد مرسي رئاسة الجمهورية بدا واضحا رغبة النظام الجديد في استخدام الورقة السورية على أكثر من مستوى. فمن جانب حاول نظام اﻹخوان لعب دور أكبر في التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الداعم للمتمردين على نظام بشار اﻷسد في سوريا، ومن جانب آخر سعى إلى أن تكون الحرب في سوريا عامل إلهاء للرأي العام المصري الذي كان يتزايد تبرمه بحكم اﻹخوان بصورة متسارعة. وإنعكست هذه السياسة على تعامل نظام محمد مرسي مع اللاجئين السوريين في مصر بمحاولة إظهار دعم الدولة وترحيبها بهم وكان من مظاهر ذلك قرار الرئيس المعزول بمعاملة الطلبة السوريين في المؤسسات التعليمية المصرية التابعة للحكومة معاملة قرنائهم المصريين.
أغراض السياسة الداخلية كانت حاضرة بصورة أوضح في تعامل نظام ما بعد اﻹطاحة بالرئيس المعزول وجماعته في 3 يوليو 2013. فالنظام الجديد سعى بوضوح إلى تغذية مشاعر العداء الشعبي للسوريين والفلسطينيين التي بدأت بوادرها في الشهور اﻷخيرة لحكم محمد مرسي. وذلك من خلال التركيز على وهم وجود علاقة خاصة بين جماعة اﻹخوان المسلمين وبين اللاجئين السوريين والفلسطينيين في مصر على نمط العلاقة الخاصة بين الجماعة وبين المتمردين اﻹسلاميين (وجماعة اﻹخوان السورية) من جهة والعلاقة الوثيقة بينها وبين حركة حماس في غزة. واستخدمت مشاركة سوريين وفلسطينيين في اعتصامات ومسيرات اﻹخوان ضد النظام الحالي بشكل مبالغ فيه في وسائل اﻹعلام المختلفة لدمغ كل اللاجئين من الجنسيتين بالانحياز للجماعة والعمل لصالحها. واستكمالا لهذه الصورة بدأت السلطات المصرية في انتهاج سياسات جديدة تجاه اللاجئين السوريين كان أولها مطالبتهم بالحصول على تأشيرات إقامة في مصر ورفض منح كثيرين منهم هذه التأشيرات ومن ثم منع المئات منهم من دخول البلاد. وبالنسبة للموجودين بالفعل على اﻷراضي المصرية تم تعقب أعداد كبيرة منهم واحتجازهم دون توجيه اتهامات إليهم ثم ترحيل بعضهم. وفي ظل عمليات التضييق المستمر الرسمي والشعبي أيضا على اللاجئين السوريين والفلسطينيين اضطرت أعداد متزايدة منهم إلى السعي إلى مغادرة البلاد بطريق غير شرعي بعبور البحر المتوسط إلى جنوب أوروبا، متجشمين في ذلك مصاعب جمة ومعرضين أنفسهم لخطر الموت غرقا أو الاحتجاز من قبل السلطات المصرية.
ويستعرض تقرير للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية صدر تحت عنوان «بين شقي رحى» تفاصيل ما تعرض له حوالي 1500 لاجئ من سوريا سوريون وفلسطينيون عقب احتجازهم من قبل السلطات المصرية على خلفية محاولتهم، أو الاشتباه في محاولتهم، مغادرة البلاد بطريق غير شرعي، ويضم هذا العدد أسرا كاملة تضم نساء بعضهن حوامل وأطفال بعضهم رضع، ويوضح التقرير أنه بالرغم من أن النيابة العامة قد أمرت بإطلاق سراحهم إلا أن الشرطة استمرت في احتجازهم بناءً على أوامر أصدرها جهاز اﻷمن الوطني بالمخالفة للقانون. ويوضح التقرير اﻷوضاع غير اﻹنسانية التي يحتجز في ظلها هؤلاء اللاجئين.
ويوضح تقرير للهيومان رايتس ووتش نشر بتاريخ 11 نوفمبر 2013، تعرض اللاجئين السوريين والفلسطينيين المحتجزين لضغوط من الشرطة المصرية لتوقيع إقرار يفيد بمغادرتهم البلاد طواعية وذلك قبل ترحيلهم إلى لبنان أو سوريا. ويوضح التقرير أن هؤلاء اللاجئين لا خيار لهم في حال دخولهم إلى لبنان سوى الحصول على تأشيرة لمدة 48 ساعة يتم ترحيلهم بعدها إلى سوريا في حال لم يكن بإمكانهم السفر إلى بلد آخر، وهو ما يعني في المحصلة أن السلطات المصرية ترغم اللاجئين عمليا على العودة إلى البلد الذي فروا منه ابتداءً في مخالفة صريحة لاتفاقية شؤون اللاجئين والقانون الدولي. وتخير السلطات المصرية هؤلاء اللاجئين بين القبول بترحيلهم أو البقاء قيد الاحتجاز إلى مدى غير معلوم في ظل ظروف شديدة القسوة. وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين يشير التقرير إلى حقيقة قانونية هامة وهي أن استثناء اتفاقية شؤون اللاجئين للفلسطينيين من رعاية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بوصفهم يتمتعون برعاية وكالة اﻷمم المتحدة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (اﻷونروا) لا ينطبق على حالة من يتواجد منهم على اﻷراضي المصرية نظرا لعدم وجود مكاتب للأونروا في مصر.
طريق الخروج
لا تبدو في اﻷفق القريب أي بوادر لانتهاء محنة الحرب اﻷهلية في سوريا، ومع استمرار تعرض المدنيين السوريين والفلسطينيين في سوريا لمخاطر داهمة على حياتهم وحريتهم فإن القانون الدولي والاتفاقيات ذات الصلة بشؤون اللاجئين تبقى واضحة في شمولهم بصفة اللاجئين حال اختيارهم لمغادرة سوريا إلى أي بلد آخر، وكذلك في إلزام الدول التي يلجؤون إليها بضمان كل ما يترتب لهم من حقوق نتيجة اتصافهم بهذه الصفة. وقبل أي شيء آخر فإن القانون الدولي يحظر على كافة الدول سواء كانت موقعة على اتفاقية شؤون اللاجئين أو غير موقعة عليها أن تقوم بترحيل أي لاجئ إلى بلد تكون حياته أو حريته فيه عرضة للخطر.
في هذا اﻹطار فإن ما يتعرض له اللاجئون السوريون والفلسطينيون في مصر هو قبل أي شيء مخالف لالتزامات مصر الدولية، ناهيك عن كونه مناقض لأي اعتبارات إنسانية عامة أو خاصة تتعلق بالعلاقات التاريخية الوثيقة بين شعبي كل من سوريا وفلسطين وبين الشعب المصري. ومن المصادفات ذات الدلالة العميقة أن اللاجئين السوريين عندما يتعرضون للاحتجاز عند محاولتهم مغادرة مصر بصورة غير شرعية توجه لهم اتهامات ينص عليها قانون صدر في عام 1960 في عهد وحدة مصر وسوريا تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة، وهو لا يزال ساريا في البلدين كإرث لفترة كانا فيها بلدا واحدا!
على جانب آخر فإن استمرار احتجاز اللاجئين السوريين والفلسطينيين رغم صدور قرار النيابة بإطلاق سراحهم يمثل خرقا للقانون المصري ويشكل احتجازا خارج إطار القانون، وكون ذلك يتم بأوامر من جهاز اﻷمن الوطني يطرح علامات استفهام عديدة حول اختصاصات وسلطات هذا الجهاز الذي يفترض به أن يكون جهازا معلوماتيا ولا ينص أي قانون على منحه سلطات احتجاز أي إنسان مواطنا كان أو أجنبيا.
وإذا وضعنا كافة التفصيلات القانونية دولية كانت أو محلية جانبا فإنه لا يمكن بأي حال إغفال حقيقة أن اﻹجراءات كافة سواء كانت قانونية في ظاهرها أو تمثل خرقا واضحا للقانون هي في الواقع انعكاس ﻷغراض سياسية، ومن ثم فإن المشكلة برمتها يمكن اختصار حلها في الحاجة إلى إرادة سياسية من النظام الحالي للتخلي عن العبث بالورقة السورية في إطار تأمينه لمصالح سياسية داخلية. وفي حين يبقى مسار الضغط القانوني ضروريا فإنه من العبث تصور أن تنتهي معاناة اللاجئين السوريين والفلسطينيين في مصر بدون إقناع النظام الحالي بسبل الضغط أو الحوار بضرورة تخليه عن سياساته الحالية ضدهم والتي تضر ضررا بالغا بمدنيين أبرياء لا ذنب لهم فيما تمر به بلادهم أو ما تمر به مصر من تحولات سياسية، كما تضر بوضع مصر كعضو في المجتمع الدولي يتنكب لالتزاماته القانونية واﻹنسانية تجاه هذا المجتمع.
ضع تعليقا