قبل وقوع الكارثة.. تدابير عاجلة مطلوبة لحماية العمال من أخطار الإجهاد الحراري
مع كل موجة حارة، تعود مسألة الإجهاد الحراري والتأثيرات الصحية المتعلقة بالعمل في درجات الحرارة العالية وتحت أشعة الشمس المباشرة إلى الواجهة، في الوقت الذي يفتقر العاملون في كثير من القطاعات الحيوية في البلاد يفتقرون إلى معايير السلامة المهنية لحمايتهم من مخاطرها، فضلا عن افتقارهم الحماية الكافية من هذه التأثيرات، بينما ما تزال الجهات المسؤولة تتجاهل اتخاذ القرارات الضرورية للتعامل مع معدلات التغيير والارتفاعات غير المسبوقة في درجات الحرارة، ما يعرض عشرات الملايين من العمال لأخطار الإصابة بالعديد من الأمراض من بينها السرطان وأمراض القلب، وقد تصل إلى حد الوفاة.
بين سندان الإجهاد الحراري ومطرقة أكل العيش
وتزداد معدلات الخطر بشكل أكبر في محافظات جنوب الصعيد، وهي سوهاج وقنا والأقصر وأسوان والبحر الأحمر، التي يقدر عدد المشتغلين بها بـ3 ملايين و86 ألفا و800 عامل وعاملة، وفقا لآخر إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وسجلت إحدى محافظاته – أسوان – أعلى درجة حرارة في العالم بـ49.6 درجة مئوية في الظل، كأسخن منطقة على وجه الأرض، متجاوزة الحد الأقصى المسموح به في قوانين العمل والبيئة بقرابة 17 درجة مئوية، فيما يبلغ عدد العاملين بها ما يقارب 478,400 عامل، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء لعام 2024.
كما تتزايد التأثيرات على المشتغلين في أعمال شاقة تتطلب التعرض للحرارة بشكل مباشر، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر عمال (الزراعة، والصيد، والتعدين، واستغلال المحاجر، وقطاع الأخشاب، والصناعات التحويلية، وإمدادات الكهرباء والغاز، والإمداد المائي، وشبكات الصرف الصحي ومعالجة النفايات، والتشييد والبناء، وتجارة الجملة والتجزئة، وإصلاح المركبات، والنقل والتخزين، وخدمات الغذاء والإقامة، والأفران، والتوصيل) ويبلغ عددهم 21 مليونا و798 ألفا و800 عامل وعاملة، وفقا لآخر إحصائية رسمية.
والوطأة الحرارية يقصد بها ارتفاع درجة الحرارة المحيطة بالإنسان عن الحد الذي يتحمله، ما يعرّض حياته لمخاطر عديدة، ومن مظاهرها الطفح الجلدي، والجفاف، والتشنجات العضلية، والإعياء الحراري، والشعور بدوار ونعاس وفقدان للشهية، فضلا عن فقدان الوعي، وغيرها.
ووفقا لدراسة أكاديمية، تُقدر درجة الحرارة “القصوى” لما يمكن أن يتحمله الشخص السليم لعدة ساعات بحوالي 30 درجة مئوية و31 درجة مئوية في البيئات الرطبة الدافئة.
تحذيرات مستمرة.. وتجاهل حكومي
اتخاذ التدابير العاجلة للتعامل مع أخطار ارتفاع درجات الحرارة لم يعد رفاهية، خاصة في ظل تزايد عدد الضحايا، حيث أشارت تقارير إخبارية إلى وفاة نحو 50 سودانيًا خلال الأيام الماضية، وإصابة عدد آخر، جراء ضربات الشمس خلال محاولتهم دخول مصر بصورة غير رسمية عبر الصحراء المتاخمة لمحافظة أسوان، حيث استقبل المستشفى عدد من الجثث مسلوخة الجلد وتعاني من جفاف، في الوقت الذي قال ناجون إن أسرا بأكملها توفيت بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وحذرت هيئة الأرصاد الجوية، الأحد 9 يونيو 2024، من أطول موجة حر خلال الشهر الحالي، تستمر لمدة 10 أيام، بداية من الأربعاء 12 يونيو، تتخطى خلالها درجات الحرارة العظمى 42 درجة مئوية في القاهرة، أما في محافظات الصعيد تتخطى 47 درجة مئوية.
بينما تتزايد الأخطار الناجمة عن تأثيرات الوطأة الحرارية، ما تزال الجهات المسؤولة على رأسها وزارة القوى العاملة، لم تتخذ أي تدابير وقائية في هذا الشأن، كما لم تحدث إجراءاتها في شأن حدود الأمان والاشتراطات والاحتياطات اللازمة لدرء المخاطر.
وحدد القرار 211 لسنة 2003، في شأن حدود الأمان والاشتراطات والاحتياطات اللازمة لدرء المخاطر الفيزيائية والميكانيكية والبيولوجية والكيميائية والسلبية وتأمين بيئة العمل، الصادر عن وزارة القوى العاملة والهجرة حينها – وزارة العمل حاليا – حدود التعرض الحراري المسموح بها في أماكن العمل، وقدر مدة الراحة المفروضة من 25% إلى 75% من مدة العمل وفقا لعبء العمل، ووفقا لدرجات الحرارة المقدرة من 25 إلى 32 درجة مئوية.
كما صنف القرار عبء العمل إلى 3 درجات، خفيف؛ ويعني العمل على الماكينات واقفا أو جالسا أو القيام بأعمال يدوية خفيفة، ومتوسط؛ ويعني السير بأعمال خفيفة أو مع دفع أو سحب، وشاق: ويعني أعمال الحفر والتحميل أو الصعود بأحمال.
وخلال 21 عاما، لم تجر أي تعديلات على قرار الوزير على الرغم من تزايد درجات الاحترار بما يقارب 17 درجة مئوية عن الحد الأقصى المنصوص عليه، كما لم تجر أي تعديلات بشأن مراجعة سياسات السلامة والصحة المهنية في أماكن العمل، في الوقت الذي دعت منظمة العمل الدولية إلى بذل جهود أكبر لتصميم وتمويل وتنفيذ سياسات وطنية لمعالجة مخاطر الإجهاد الحراري وحماية العمال، بما يشمل البنية التحتية الملائمة، وتحسين أنظمة الإنذار المبكر بموجات الحر، وتحسين تنفيذ معايير العمل الدولية مثل معايير السلامة والصحة المهنية للمساعدة في تصميم سياسات تعالج المخاطر الناجمة عن ارتفاع الحرارة.
كيف يتعامل العالم مع أخطار الحرارة في أماكن العمل؟
على جانب آخر تفرض العديد من الدول العديد من إجراءات وتدابير للحماية والوقاية من المشاكل الصحية المتعلقة بالعمل في درجات الحرارة العالية وتحت أشعة الشمس المباشرة، حيث رصد آخر تقرير لمنظمة العمل الدولية بشأن ضمان السلامة والصحة في العمل في ظل مناخ متغير، الصادر في عام 2024، نماذج من التدابير التي اتخذتها هذه الدول، ومنها على سبيل المثال، الصين التي فرضت وقف العمل في الهواء الطلق حال تجاوز الحرارة 40 درجة مئوية، بينما في قطر يتوقف العمل عندما تجاوز درجة 32.1 درجة مئوية، كما تنص القواعد المنظمة في تايلاند على إيقاف العمل منخفض الكثافة حال الوصول إلى 34 درجة مئوية، ومتوسط الكثافة حال الوصول إلى 32 درجة مئوية، وشديد الكثافة حال الوصول إلى 30 درجة.
وتتخذ دول مماثلة لمصر تدابير تدريجية للتعامل مع تأثيرات الوطأة الحرارية في أماكن العمل، وفقا لقيم مؤشرات قياس الحرارة، التي يقصد بها قياس ارتفاع درجات الحرارة المحيطة بالعامل إلى الحد الذي لا يحتمله، ما يعرضه لمخاطر عديدة قد تكون الوفاة مرحلتها الأخيرة.
وعلى سبيل المثال، يصنف الدليل الإرشادي للعمل في درجات الحرارة العالية والتعرض المباشر لأشعة الشمس الصادر عن هيئة الصحة العامة السعودية، قيم مؤشر الحرارة إلى 4 نطاقات مرتبطة بمستويات المخاطر، بما يساعد على اتخاذ الإجراءات المناسبة وفقا لمعطيات درجات الحرارة.و
ويحدد التصنيف أقل من درجة 32.7 مئوية كمستوى قليل الحذر، ومن 32.7 إلى 39.4 مستوى متوسط الخطر، ومن 39.4 إلى 46.1 مستوى عال، وأكثر من ذلك مشتوى عالي الخطورة – وهو ما وصلت إليه درجات الحرارة في مصر في الفترة الأخيرة – ملزمة بفرض تدابير وقائية وإجراءات شديدة الصرامة.
توصيات عاجلة
مع وصول حجم أخطار الوطأة الحرارية إلى حد الوفاة في بعض الأحيان، يشدد المركز المصري على اتخاذ الدولة تدابير طارئة للتعامل معها تعامل الجوائح والأخطار الطبيعية والكوارث الإنسانية بما يترتب على ذلك من آثار؛ للحد من تأثيراتها على حيوات البشر، مع تشديد إلزام المنشآت وأصحاب العمل بتطبيق الإجراءات الوقائية، إلى تشديد إجراءات الرقابة والتفتيش على المنشآت التي لا تلتزم بالمعايير، والتعامل مع المخالفات بحزم لحماية حياة العمال، فضلا عن بحث تطبيق إجراءات تعويضية لهم عن الخسائر الناجمة عن هذه التدابير.
كما يدعو المركز إلى ضرورة وضع خطط مركزية لتعزيز السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل في ضوء التحديات الحالية ومتابعة تنفيذها بالتنسيق مع الجهات المعنية، مذكرا أن إصابة العمال في مثل هذه الظروف تعد إصابة عمل تستحق تعويضًا من صاحب العمل، بالإضافة إلى المسائلة الجنائية وفقًا لقوانين العمل والبيئة.
وفي هذا السياق أيضا يطالب المركز بضرورة تقليل عدد ساعات العمل في هذه الفترات، مع زيادة عدد فترات الراحة وتوفير أماكن باردة ومظللة لها، مع تحديد مواعيد القيام بالأعمال الحرارية في أوقات اليوم التي تنخفض فيها درجات الحرارة، والحد من المتطلبات البدنية التي يتعين على العاملين تلبيتها، وتكليف عدد أكبر من العمال بالقيام بالمهام التي تتطلب جهدا بدنيا، والحد من الجهد البدني بتوفير المعدات والأدوات الكفيلة بذلك، وتوفير مياه وسوائل باردة للعاملين مع توفير فترة راحة لشربها، وتعيين مراقبين مدربين على طرق الوقاية والتعامل مع المشاكل الصحية لملاحظة أي أعراض أو علامات للمشاكل الصحية المرتبطة بدرجات الحرارة العالية، والتأكد من وجود أدوات ومواد الإسعافات الأولية للتعامل الفوري معها.
كما يدعو المركز للإسراع من تنفيذ الخطة الحكومية للتحول الرقمي وميكنة الخدمات، مثل التأمين الصحي، والعلاج على نفقة الدولة، والتراخيص، والشهر العقاري، وغيرها، خاصة المتعلقة بالمرضى وكبار السن كأكثر الفئات ضعفا وعرضة لأخطار الإجهاد الحراري، تفاديا للتعرض لمخاطر صحية إضافية ناجمة عن الإرهاق والضغوط النفسية بسبب الإجراءات الإدارية التقليدية.