بيانات المركز بيانات صحفية حقوق اجتماعية عمل ونقابات

ورقة تحليلية|مشروع قانون الحريات النقابية نقطة تحول تاريخية في علاقة الدولة بالعمال

يمثل إصدار قانون جديد للنقابات العمالية، يكسر لأول مرة منذ نهاية خمسينات القرن الماضي قاعدة التنظيم النقابي الأوحد، نقطة تحول تاريخية في علاقة الدولة المصرية بالتنظيمات النقابية للعمال، قد يغيب مغزاها عن الكثيرين في خضم ما تشهده مصر من ضبابية اختلاط الثابت بالمتغير في سنوات ما بعد ثورة يناير 2011. قد لا يكون للقانون الجديد أثره الجذري على علاقات العمل في مصر وعلى تدخل السلطة فيها بشكل مباشر في القريب العاجل، ولكن هذا لا يقلل من أهميته التاريخية إذا ما نظرنا إليه في إطار مجمل تطور علاقة العمال بالدولة منذ الحقبة الناصرية، ففي ذلك الإطار يمكن لهذا القانون أن يكون إشارة إلى النهاية الرسمية لأحد الأعمدة التي قامت عليها الصيغة التعاقدية لهذه الدولة في فترتى الخمسينيات والستينيات، والتي استبقت الخلطة المباركية منها ظلها الشمولي في سنوات احتضارها.

 

كانت تلك الصيغة التعاقدية للدولة مع العمال في عهد جمال عبد الناصر تستجيب لعاملين أساسيين، الأول هو طموح بناء الدولة العصرية على أساس نهضة صناعية بخطى متسارعة، والثاني هو هاجس إبقاء كل فعاليات المجتمع تحت السيطرة الكاملة للدولة. في هذا الإطار قدمت الدولة للعمال مكتسبات هامة لتلعب بذلك دور الراعي الأهم لهم، وفي ظل كونها صاحب العمل الأكبر أرست علاقات العمل على أساس مجموعة من التشريعات انتفت معها الحاجة إلي التفاوض الدوري بين العمال وبينها لتحسين شروط العمل، ومن ثم أفرغ التنظيم النقابي من وظيفته الأساسية ليتحول بالنسبة للعمال إلي جهاز خدمي، وبالنسبة للدولة إلى أداة أساسية لإبقاء الطبقة العاملة تحت السيطرة من خلال واحدية التنظيم وإدماجه بشكل شبه كامل في الدولة وحزبها الواحد.

 

على الرغم من تآكل تلك الصيغة التعاقدية في عهد السادات أولاً ثم في عهد مبارك إلى حد تلاشي مكوناتها الأساسية بشكل شبه تام في السنوات الأخيرة قبل ثور 25 يناير، فقد أبقت الدولة في إصرار عنيد على التنظيم النقابي الأوحد والمدمج فيها كأداة سيطرة على الطبقة العاملة، وهو ما أنشأ تناقضا ازدادت حدة آثاره مع الوقت؛ فبينما تخلت الدولة عن ملكيتها للقسم الأكبر من القطاع العام وتخلت بشكل كامل عن دور الراعي للعمال وحقوقهم وأعادت صياغة قوانين العمل مجردة العمال من معظم ما سبق أن قدمته لهم من مكتسبات في المرحلة الناصرية، ظل التنظيم النقابي على جموده مع عدم فتح الباب أمام العمال لتنظيم بديل عنه. وعلى أرض الواقع كان هذا يعني أن حاجة العمال إلى تنظيم نقابي حقيقي أصبحت ماسة نتيجة لتدهور ظروف العمل بفعل سياسات الليبرالية الجديدة التي انتهجتها الدولة، وبالطبع لم يكن بالإمكان تحقيقها من خلال تنظيمهم النقابي الوحيد الذي لم ينشأ بالأساس للدفاع عن مصالح العمال.

 

كان تصاعد الاحتجاجات العمالية في السنوات الأخيرة السابقة لثورة الخامس والعشرين من يناير أحد أهم عوامل قيام هذه الثورة. وكانت علاقات العمل في مصر قد بلغت درجة عالية من التأزم في ظل سياسات الليبرالية الجديدة التي شرع النظام في تطبيقها بوتيرة متسارعة خاصة في ظل وزراة أحمد نظيف الثانية. وفي حين استخدم نظام مبارك آلته القمعية ممثلة في الشرطة وجهاز أمن الدولة سيئ السمعة لمواجهة موجة الاحتجاجات العمالية المتصاعدة، كان القانون رقم 35 لسنة 1976 المنظم للنقابات العمالية عاملاً رئيسياً لانسداد أفق الحلول التفاوضية للمشكلات المتراكمة في علاقات العمال بأصحاب الأعمال، إذ جرد هذا القانون العمال عمليا من وجود كيانات مدارة ديموقراطيا تمثلهم بشكل حقيقي، وألزم معظمهم بالانضواء تحت عباءة الاتحاد العام لعمال مصر الخاضع بشكل كامل للنظام، والذي دأبت قياداته على الانحياز إلي مصالحهم الضيقة المرتبطة بمصالح أصحاب الأعمال.

 

على الجانب الدولي كان القانون 35 أحد الأسباب الرئيسية لوضع منظمة العمل الدولية مصر علي القائمة القصيرة للدول التي لا تحترم تعهداتها الدولية الخاصة بحقوق العمال، وبشكل خاص حقهم في تشكيل نقاباتهم المستقلة المدارة ديموقراطيا، والمعروفة إعلاميا ب “القائمة السوداء”

 

وفي أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير، خرجت مصر للمرة الأولى من هذه القائمة بعدما ظهرت بوادر مطمئنة لأن يكون الزخم الثوري سببا في تصحيح أوضاع العمل النقابي في مصر واصدار قانون جديد للحريات النقابية، وكان من هذه البوادر إصدار د/أحمد البرعي وزير القوى العاملة في وزارة عصام شرف ماسمي بإعلان مبادئ الحريات النقابية 12 مارس 2011 بحضور مدير منظمة العمل الدولية حينها خوان سومافيا إضافة إلى التعهد بإصدار قانون جديد للنقابات العمالية في أقرب فرصة، ولكن هذا القانون الجديد لم ير النور في فترة حكم المجلس العسكري. ومع تسلم الدكتور محمد مرسي مهام منصبه كأول رئيس مدني لمصر بعد الثورة في أول يوليو 2012 تجدد الأمل في إصدار القانون ليتبخر سريعا مع ظهور اتجاه الإخوان إلي فرض سيطرتهم على التنظيم النقابي العمالي في مصر، وأدى التسويف المستمر في إصدار قانون للحريات النقابية إلي عودة مصر إلي القائمة السوداء لمنظمة العمل الدولية في يونيو 2013 بعد عامين من خروجها منها، مع إمهالها ستة أشهر لتوفيق أوضاعها.

 

مع الموجة الثانية للثورة التي أدت إلى عزل محمد مرسي وتشكيل حكومة جديدة يعود إصدار قانون جديد للحريات النقابية إلى الواجهة، ويظهر إلى النور مشروع جديد لهذا القانون في سبيله للصدور بعد التشاور حوله مع الإتحادات العمالية القائمة. ويأتي ذلك كبارقة أمل في مشهد تحفه الضبابية فيما يتعلق بطبيعة توجه السلطة الحاكمة بعد 3 يوليو 2013 فيما يخص العمال، خاصة مع ظهور بوادر استمرار التعامل القمعي مع الاحتجاجات العمالية، وتدخل القوات المسلحة بشكل مباشر لفض بعض الاعتصامات العمالية أو الضغط على العمال للتخلي عن مطالبهم.

 

أهم ملامح مشروع القانون

 

يعد كسر أحادية التنظيم النقابي العمالي هو الملمح الأساسي للقانون الجديد، الذي يسمح بالتعددية النقابية في مصر لأول مرة منذ عام 1957، وعلى الرغم من إنتزاع العمال من خلال نضالهم قبل الثورة وبعدها لحق تكوين تنظيماتهم النقابية المستقلة عمليا على الأرض منذ نجح عمال الضرائب العقارية في تشكيل نقابتهم المستقلة في عام 2008، وتوالى تشكيل النقابات المستقلة بعد الثورة وتجمعها في إتحاد عمال مصر المستقل وكذا ظهور أكثر من إتحاد عمالي آخر إلي جانب الإتحاد العام لعمال مصر، فإن عدم الإعتراف القانوني بهذه الكيانات النقابية ظل عقبة هامة في سبيل عملها بالفعالية المطلوبة للقيام بدورها في الدفاع عن مصالح أعضائها.

 

إضافة إلى إطلاق القانون حق تشكيل النقابات والاتحادات العمالية بمجرد إخطار جهة الإدارة، فإنه يحيل في شأن تنظيم تفاصيل عمل هذه الكيانات إلى لوائحها الداخلية التي تضعها بنفسها، مما يتيح قدرا كبيرا من المرونة والاستقلالية للنقابات في تحديد هيكلها التنظيمي وأسلوب عملها، ويضع القانون فقط عددا محدودا من الشروط فيما يخص الترشح لعضوية مجالس إدارات التنظيمات النقابية، أهمها إجادة القراءة والكتابة، وعدم الإحالة للتقاعد، وألا يكون للعضو سلطة الجزاء بالمنشأة التي يعمل بها، في حين ينص بوضوح على أن الجمعية العمومية المشكلة من جميع أعضاء التنظيم النقابي هي السلطة العليا التي ترسم سياساته وتشرف على كافة شؤونه.

 

يوفر القانون من خلال نصوص عدد من مواده الحماية للنقابيين من التعرض لتعسف أصحاب الأعمال معهم نتيجة لنشاطهم النقابي، فهو يلزم صاحب العمل أو من يمثله بالامتناع عن أي إجراء من شأنه إعاقة أو الحد من ممارسة الأعضاء النقابيين لنشاطهم النقابي، وهو يحظر إعاقة التواصل مع العمال أو عقد الاجتماعات معهم، كما يحظر إعاقة إجراء الانتخابات النقابية، وكذا يحظر القانون إعاقة حصول النقابيين على المعلومات الصحيحة اللازمة للمفاوضة الجماعية. إضافة إلى ذلك يحظر القانون على صاحب العمل ممارسة أي إكراه مادي أو معنوي لأي من العمال أو التمييز بينهم بسبب النشاط النقابي. ويسبغ القانون حماية خاصة لاجتماعات أعضاء المنظمات النقابية بسبب ممارسة نشاطهم النقابي باستثناء هذه الاجتماعات مما تقضي به أية قوانين منظمة للاجتماعات العامة.

 

ربما تكمن نقطة الضعف الأساسية للقانون في مواده الانتقالية الخاصة بتوفيق التنظيمات النقابية القائمة لأوضاعها، فتتسم هذه المواد بالعمومية والاختصار وتحيل التنظيم الفعلي لعملية توفيق الأوضاع إلى الوزير المختص، ويتجاهل القانون بذلك الوضع الخاص للاتحاد العام لعمال مصر الذي نتيجة كونه التنظيم الأوحد المعترف رسميا به طوال عقود حصل على امتيازات هائلة ووضع تحت تصرفه مؤسسات أنشئت لخدمة العمال بصفة عامة، وكان ينبغي النص بوضوح على كيفية التصرف في هذا النوع من ممتلكات الاتحاد بحيث لا يشكل احتفاظه بها ميزة تنافسية غير عادلة مقارنة بالاتحادات العمالية الأخرى، وبما لا يحرم العمال الأعضاء في هذه الاتحادات من الاستفادة بخدمات ومكتسبات كان الهدف منها في الأصل أن تعم عمال مصر كلهم.

 

خاتمة

 

إن الأهمية الخاصة لقانون الحريات النقابية بوصفه نقطة تحول تاريخية في علاقة الدولة بالعمال لا تعني أنه بذاته كفيل بحل الأزمات المتفاقمة لعلاقات العمل في مصر، فهذا القانون هو فقط أحد عناصر صورة معقدة لحال الطبقة العاملة المصرية التي عانت كثيرا طوال العقود الأخيرة وكان لنضالها أثر حاسم في التغييرات التاريخية التي شهدتها مصر منذ الثورة وحتى اليوم. وتعد الحاجة الملحة إلى تعديل قانون العمل المطلب الرئيسي التالي في الأهمية في سبيل علاج الخلل التشريعي الذي يميل بتوازن القوى في علاقات العمل لصالح أصحاب الأعمال، ولكن العامل الأكثر أهمية عمليا هو الإرادة السياسية للسلطة الحالية لتعديل سياسات الدولة المصرية بحيث تتحول إلي شريك محايد في عملية تنظيم علاقات العمل وإدارتها، فلا قيمة حقيقية لوجود كيانات ديموقراطية تمثل العمال إن كان سبيل التفاوض لتحسين شروط العمل مسدودا بتدخل الدولة وأجهزتها الأمنية لقمع الإضرابات العمالية التي هي أداة الضغط الوحيدة المتاحة للعمال لدفع أصحاب الأعمال إلى طاولة التفاوض.

 

وفي النهاية إن السبيل الطويلة والوعرة التي قطعها العمال للوصول إلي إخراج قانون الحريات النقابية إلى النور تعيد التأكيد على أن مكتسبات الطبقة العاملة ليست هبة من السلطة تمنحها عن طيب خاطر وإنما تتطلب دائما النضال لانتزاعها والدفاع عنها، وهو ما يترتب عليه مسؤوليات كبيرة ينبغي أن تتحملها التنظيمات النقابية في المرحلة التالية خاصة تلك التي اكتسبت صفة الشرعية القانونية بموجب هذا القانون، فهي وقد عبرت مرحلة النضال للبقاء والاستمرار يتحتم عليها التطلع إلى أن تكون فاعلا مؤثرا في المجال العام بحيث تكون أداة العمال لتحقيق طموحاتهم في حياة أفضل من خلال أهداف ثورة يناير، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.

 

وربما تفاجئنا الدولة بعودتها لسيرتها الأولى ومماطلتها في إصدار هذا القانون أو تسترها خلف أعمال مراجعة الصياغة بالسعي إلى تشويه النصوص وإفراغها من مضمونها. وهو ما لا نتمنى حدوثه.

ضع تعليقا

اضغط للتغليق