إصداراتتقاريرخصخصة و قضايا فسادسياسات اقتصادية

خصخصة |ملكية الشركات العامة: النيل لحلج الأقطان مثالا “ورقة تحليلية”

“ورقة تحليلية, عن عودة شركة النيل لحلج الاقطان للمال العام, بعد 16 عاما على تداولها بالبورصة”.

 

ربما تكون سلسلة الأحكام النهائية من القضاء الإداري بإعادة عدد من شركات القطاع العام المخصخصة إلى الملكية العامة هي المظهر الوحيد الملائم حقا للاحتفال بذكرى جمال عبد الناصر التي تمر بنا هذه الأيام، ففي حين يحتفل البعض بزيارة ضريح الزعيم الراحل ويفرد البعض الآخر مساحات بالصحف وساعات من البث التليفزيوني للإطناب في مدحه، يغيب عن الجميع إنجازه الأهم الذي تم إهداره خلال العقود الثلاث الأخيرة. في عهد عبد الناصر بنت مصر قاعدة صناعية بأموال الشعب كانت نواة حقيقية لنقلها إلى مصاف الدول الصناعية، وبغض النظر عن المثالب الكثيرة لطبيعة الملكية العامة وبيروقراطية إدارتها، فإن الأكيد أن هذه القاعدة الصناعية وفرت وظائف آمنة للملايين، كما وفرت منتجا مصريا يسد حاجات السوق المحلي أو جزءا هاما منها كما يحقق فائضا للتصدير.

 

استخدام الدول للموارد الطبيعية والبشرية المملوكة لشعوبها لبناء قواعد صناعية، وهو نمط للنمو بدأه الاتحاد السوفيتي ثم شاع بين دول العالم الثالث المتحررة من الاستعمار الغربي حتى ستينيات القرن الماضي، هو بخلاف ما يظن كثيرون ليس أكثر من شكل من أشكال النمو الرأسمالي يصطلح على تسميته برأسمالية الدولة. وفي الواقع لا يوجد هذا الفصل التام بين رأسمالية السوق الحر ورأسمالية الدولة إلا في أوهام من يصدقون في الكتابات الكلاسيكية للاقتصاد السياسي التي لا يختلف محتواها النظري في انفصاله عن الواقع والتاريخ عن القصص الخرافية، فلم يحدث أن كانت الدولة بأدوات ممارستها للسلطة هي ذلك الحكم المحايد الذي لا يتدخل في عملية النمو الرأسمالي خاصة في بداياته. ولكن ظروف نشأة الرأسمالية في كل دولة حكمت مظاهر تدخل الدولة التي اتخذت ثلاثة أنماط رئيسية؛ النمط الأول، اختصت به الدول الرأسمالية الأولى التي توافرت لها رؤوس أموال تراكمت نتيجة نشاط تجاري واسع يسرته مراحل الكشوف الجغرافية، وكان تدخل هذه الدول محدودا بقوانين أعادت هيكلة المجتمع لتوفر الأيدي العاملة اللازمة للنمو الصناعي من خلال تجريد الطبقات الريفية الفقيرة من الوصول إلي الموارد التي كانت متاحة لها على المشاع وفق القواعد السائدة في عصور الإقطاع؛ النمط الثاني، انتهجته دول بدأت صعودها في النصف الثاني من القرن الـ19 ولم تتوافر لها نفس المميزات التي أتيحت لسابقتها، وكان تدخل الدولة فيها أعمق بحيث اعتمدت في إحداث التراكم الرأسمالي على كارتلات احتكارية صناعية على صلة وثيقة بالدولة تعمل تحت حمايتها وتتلقى دعما منها في مقابل التزامها بخطة مركزية للتنمية تضعها الدولة نفسها لتحقيق أهدافها الوطنية، وأبرز نماذج هذا النمط هي ألمانيا واليابان.

 

النمط الثالث، لتحقيق التراكم الرأسمالي كانت روسيا ما بعد الثورة البلشفية رائدته تحت شعارات ديكتاتورية البروليتاريا وبناء الدولة الاشتراكية، ولكن إن وضعنا هذه الشعارات جانبا فلم يكن نمط التنمية الذي انتهجه الاتحاد السوفيتي إلا شكلا من أشكال الرأسمالية تديره الدولة بنفسها، وكانت ميزته الرئيسية هو أن تجتمع موارد البلد تحت إدارة مركزية واحدة بحيث يمكن استغلالها دون حاجة إلى رؤوس أموال كبيرة.

 

عندما خرجت دول العالم الثالث من تحت السيطرة العسكرية والسياسية للدول الاستعمارية الغربية في النصف الثاني من القرن الماضي، اكتشف أغلبها أن خروج قوات الاحتلال وحصولها على الاعتراف الدولي باستقلالها لا يعني أنها قد استقلت حقا عن مستعمريها القدامى، فاقتصاداتها كانت مصممة من قبل هؤلاء المستعمرين لتكون تابعة لاقتصاداتهم ولا تمثل إلا مصدرا للمواد الخام أو ورشا للتصنيع الوسيط تستغل فيه الموارد البشرية كعمالة أقرب للسخرة منها للعمل المأجور. واكتشفت هذه الدول أيضا أن الانفتاح على ما يسمي بالسوق العالمي الحر يجعل من المستحيل عليها التخلص من التبعية الاقتصادية، فبينما تمتعت بموارد طبيعية وبشرية كبيرة فهي قد افتقدت إلي رؤوس الأموال والتكنولوجيا الحديثة، ومن ثم فأي شراكة لها مع رؤوس الأموال الغربية كانت تصب في صالح أصحابها وتخضع لانحيازاتهم في إدارة الاقتصاد العالمي بما يحقق أكبر ربح ممكن لهم، دون اعتبار لحاجة هذه الدول إلي الاتجاه للتصنيع وتعظيم عوائد مواردها الطبيعية والنهوض بمستوى معيشة شعوبها. ومن ثم لجأت هذه الدول إلى تبني نموذج رأسمالية الدولة لبناء قواعد صناعية لها خاصة وأن دول المعسكر الشرقي حينها لم تتأخر في تقديم الدعم لها في مقابل أن تدور في فلكها في إطار صراع ما يسمى بالحرب الباردة.

 

نموذج رأسمالية الدولة رغم نجاحه في بناء قواعد صناعية لبعض الدول لم يحقق إلا لعدد محدود منها الوصول إلى مصاف الدول الصناعية الحقيقية ووفق ظروف خاصة، ولكنه عانى من بيروقراطية الإدارة التي أدت إلى تدني كفاءة الوحدات الإنتاجية، ولأنه في النهاية نموذج رأسمالي بمعنى أن مقدرات إدارة الاقتصاد كانت فيه محصورة في أيدى طبقة محدودة فإن ثمار تنميته لم تصل في معظمها إلى الغالبية العظمى من الشعوب، إضافة إلى ذلك كانت طبقة البيروقراطية المسيطرة على إدارة الاقتصاد لا تملك الأموال التي تحت تصرفها ومن ثم كان سبيل استفادتها من هذه الأموال هو الباب الخلفي للفساد الذي استشرى بنسب كارثية في هذا النوع من الاقتصادات. وتضافرت عوامل تدني الكفاءة والفساد مع هشاشة النظم السياسية لدول العالم الثالث بصفة عامة لتؤدي بهذه الدول إلى الفشل في إقامة نظم اقتصادية مستدامة قادرة على المنافسة، واعتمد كثير منها على دعم الاتحاد السوفيتي المستمر كرشوة تكفل ولاءها ومع انهيار الاتحاد السوفيتي نفسه انكشفت حقيقة أن هذه الدول قد استبدلت اقتصادا تابعا بشكل مختلف من التبعية لا أكثر.

 

انهيار نظم رأسمالية الدولة واحدا بعد الآخر كان فرصة ذهبية للرأسماليات الغربية في لحظة حرجة من تاريخ تطورها كانت فيه في أشد الحاجة إلى فراغ جديد للتمدد، ظل محجما لوقت طويل نتيجة خضوع موارد طبيعية ضخمة لأنظمة دول غير منفتحة على ما يسمى بالسوق الحر، ومع تعثر اقتصادات هذه الدول أصبحت غنيمة باردة للرأسمالية الغربية استخدمت لتلقفها أدواتها المستحدثة حينها مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومن خلالها قدمت وصفة الخروج من الأزمة التي تتلخص في سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة وإسقاط القيود الإجرائية، وهي حزمة تهدف إلى أن تكون موارد هذه الدول الطبيعية والبشرية وصناعاتها الناشئة كذلك متاحة لرؤوس الأموال الغربية لتتمدد من خلالها وتنطلق إلى تحقيق معدلات عالية من الأرباح والنمو المستمر. في محصلتها كانت هذه السياسات محوا كاملا لسنوات من محاولات التحرر الاقتصادي للدول النامية، فهي أعادت إلحاقها باقتصاد عالمي يعمل لصالح الاقتصادات الرأسمالية الكبرى ويتلخص دور هذه الدول فيه في كونها مصدرا للمواد الخام، وورشا ضخمة تستغل فيها العمالة بأرخص مقابل ممكن، في حين تفقد هذه الدول وبالتالي شعوبها أي سيادة حقيقية على اقتصادها الذي تديره رؤوس الأموال الغربية في معظمها أو رؤوس أموال شركائها المحليين والتي تحدد مجالات التنمية المسموح بها لهذه الدول وتفرض أن يكون نصيب شعوبها في حده الأدنى لصالح تضخم أرباح المستثمرين.

 

هذه المقدمة الطويلة على الرغم من كونها لم تخرج عن رسم خطوط عامة لقسم من تاريخ نشأة رأسمالية الدولة وقطاعها العام عالميا وما آلت إليه في العقود الأخيرة هي ضرورية لفهم طبيعة الصراع الأشمل الذي تدور معركة استرداد الأصول المصرية المخصخصة في إطاره. فليست قضايا الاسترداد هذه مجرد نزاعات قانونية تتعامل مع مظاهر لفساد الإدارة في عمليات بيع أصول تمتلكها الدولة بأقل من قيمتها وحسب، ولكنها في جوهرها هي أحد مظاهر مقاومة حزمة سياسات العولمة أو الليبرالية الجديدة التي سبق الإشارة إليها والتي تأخذ عمليات الخصخصة موقعا مركزيا فيها، فالخصخصة بخلاف الركنين الآخرين لهذه سياسات تتيح لرؤوس الأموال الخارجية أو المحلية التابعة لها استفادة مباشرة وفورية من نفاذها إلي السوق المحلي، فهي إما تتيح لها الاستيلاء على وحدات إنتاجية لها أصولها وأدوات إنتاجها وعمالها ولها أيضا اسمها التجاري وسوقها الذي قد يكون احتكاريا ومحميا من قبل الدولة، وإما تتيح لها إخراج صناعات منافسة إقليميا أو محليا من سوق ترغب في احتكاره.

 

في هذا السياق يتخذ الحكم اﻷخير الذي قضت فيه المحكمة الإدارية العليا ببطلان بيع شركة النيل لحليج الأقطان موقعا خاصا في سلسلة المنازعات القضائية التي خاضها العمال والحقوقيون ضد برنامج الخصخصة، ففي حين اعتمدت الدعاوى المرفوعة سابقا أمام القضاء الإداري فيما يتعلق ببيع شركات القطاع العام على بطلان إجراءات البيع وذلك تحديدا بسبب مخالفة الحكومة في هذه الإجراءات لقانون المزايدات والمناقصات، لم يكن باﻹمكان استخدام هذا المدخل القانوني للتعامل مع حالة شركة النيل حيث تم تمكين المشتري من الاستحواذ عليها من خلال بيعه نصيب المال العام في أسهمها بالبورصة، ولكن لجوء الحكومة لهذا الاحتيال أوقعها من جانب آخر في مخالفة للقانون الذي كان يحظر طرح كامل أسهم شركة من شركات القطاع العام للاكتتاب أو البيع من خلال البورصة، وهي الثغرة التي سعت الحكومة لاحقا لسدها بتعديل اللائحة التنفيذية للقانون، ولكن هذا تم في تاريخ لاحق لبيع شركة النيل.

 

الأهمية السابقة لإبطال القضاء اﻹداري لبيع شركة النيل لحليج الأقطان لا يكمن فقط في كونها الحالة اﻷولى من نوعها، وإنما في كونها كاشفة لطبيعة برنامج الخصخصة إجمالا، ففي حين يمكن تبرير إصرار الحكومة على معارضة دعاوى إبطال بيع شركات أخرى بألا يتضرر المستثمر نتيجة أخطاء ارتكبت في إجراءات البيع لا ذنب له فيها، فإن لجوء الحكومة في هذه الحالة إلى تعديل اللائحة التنفيذية للقانون كان إصرارًا منها على استخدام الأسلوب ذاته لتمرير عمليات بيع أخرى من خلال البورصة رغم ما ينطوي عليه ذلك من احتيال، ومن ثم لا يمكن النظر إلى عمليات بيع القطاع العام بوصفها تمثل فرصا للتكسب غير المشروع لبعض المسؤولين بصفة فردية وإنما بوصفها هدفا في حد ذاتها للحكومة إلى حد استعدادها لتقنين الاحتيال في سبيل تمريرها، وهذا في الواقع ما أشار إليه نص حيثيات الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية العليا صراحة. وهذا يسقط بشكل كامل كل مقاربات التعامل مع برنامج الخصخصة على أساس كونه سياسة اقتصادية حسنة النية في اﻷساس وإن شابها الفساد المستشري بصفة عامة في البيروقراطية المصرية، ويفرض النظر إليه كسياسة تبرر وتفرض بذاتها أنماطا من الفساد والاحتيال لا سبيل ﻷن تتم أصلا بدونها. وينبغي بالتالي أن يتخطى تحليلنا لتمسك الحكومات المصرية المتعاقبة بهذا البرنامج اﻹطار الضيق للفساد المالي، فمهما كان رأينا في طبيعة النظام الحاكم في مصر قبل وبعد ثورة 25 يناير لا يمكن تفسير سياسة مستمرة ﻷي نظام بأن هدفها الوحيد هو تسهيل الفساد المالي صراحة، ففي حين يمكن بالتأكيد اتهام هذا النظام بتبني سياسة يعلم يقينا أنها تهدر المال العام وتسهل الفساد، فإننا لا يمكننا أن نغفل أن وراء ذلك دوافع أعم من ذلك.

 

حقيقة أن الخصخصة هي خيار يتخطى طبيعة اﻷشخاص في مواقع المسؤولية بل حتى يتخطى بالنسبة لمن هم في هذه المواقع طبيعة المرحلة التاريخية التي تمر بها البلاد بعد ثورة شعبية، تتضح من خلال استمرار حكومات ما بعد الثورة في مقاومة استعادة الدولة لملكية الشركات المخصخصة التي أصدر القضاء أحكاما نهائية ببطلان بيعها، برغم ما يعنيه ذلك من إهدار لأصول هذه الشركات وتشريدا لعمالها الذين مازال كثيرون منهم يناضلون من أجل أن تعيد الحكومة تشغيل شركاتهم بعد عودة مسؤولية إدارتها إليها. هذا الموقف المنافي للمنطق العملي ومقتضيات المصلحة المباشرة يكشف أن التزام مسؤولي الملف الاقتصادي في الحكومات المصرية بسياسة الخصخصة هو التزام أقرب للإيمان اﻷيديولوجي منه إلى أن يكون مراعاة للمصلحة. هذا الإيمان الأيديولوجي لا ينفرد به الاقتصاديون في موقع المسؤولية وإنما يشاركهم فيه غالبية خبراء الاقتصاد في مصر الواقعين تحت تأثير مدارس علم الاقتصاد السائدة عالميا في العقود اﻷخيرة.

 

يعيدنا هذا إلى الصورة اﻷشمل التي حاولنا اﻹشارة إليها في مقدمة هذه الورقة، فلا يمكننا في الواقع اجتزاء أي معركة وإن بدت صغيرة خارج سياق صراع عالمي يحكم تفاصيل حياتنا اليومية حتى دون أن نشعر، فتطور الرأسمالية الغربية الذي سبقت اﻹشارة إليه في مرحلة العولمة يصاحبه إنتاج علم الاقتصاد لمدارس الليبرالية الجديدة التي تقدم المبرر النظري لسياساتها. ومن ثم فإن تمدد العولمة إلى دول العالم الثالث لم يعتمد في تقدمه المستمر فقط على ما مارسته الكيانات الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الحرة.. إلخ، من ضغوط على حكومات هذه الدول، وإنما اعتمد أيضا على ترويج أسس نظرية تشربها الاقتصاديون حول العالم جعلت منهم الداعم الرئيسي لتبني دولهم لسياسات الليبرالية الجديدة، كما جعلت منها مهندسو تنفيذ هذه السياسات بحماس شديد عندما يكونون في موقع المسؤولية.

 

هذا يعني أن علينا الانتقال من مرحلة المعالجة الجزئية لآثار سياسات الليبرالية الجديدة، إلى مرحلة مواجهة هذه السياسات ذاتها واﻷسس النظرية التي تنبني عليها، فبرغم ما تحققه الدعاوى القضائية من منجزات في مجال استعادة ما تم خصخصته من شركات وفي مجالات الاستحواذ على أراضي الدولة أو تجريد المزارعين والأهالي من أراضيهم وأماكن سكنهم إلخ، فإن أغلب هذه المنجزات تبقى ناقصة في حد ذاتها طالما ظلت السياسة العامة للدولة معادية لها ومصرة على عرقلة استكمال أهدافها وعازمة في الوقت نفسه على تكرار الالتفاف على القوانين مرة تلو اﻷخرى. ولا سبيل إلى تغيير ذلك دون العمل على تعديل السياسات الاقتصادية للدولة بشكل جذري، وهو ما يحتاج إلى أساس نظري بديل ينبني أولا، على كشف حقيقة أن الليبرالية الجديدة كنظرية هي في الواقع تقوم على قناعات أيديولوجية جامدة ولا تقوم كما يتصور كثيرون على حقائق علمية موضوعية محايدة، وإنها تمثل عند تطبيقها على أرض الواقع انحيازا ضد مصالح الغالبية الساحقة من المواطنين. ثم ينبني ثانيا، على تصور ديموقراطي لمفهوم إدارة الاقتصاد يضمن أن ينطلق من مصالح الأغلبية لا أن يدعى لنفسه منطلقات نظرية مجردة كما هو الحال مع المفاهيم الحالية التي تفترض مسلمات هزلية مثل تماهي المصالح المتناقضة لفئات المجتمع المختلفة في بوتقة ما يسمى بالصالح العام، وهو افتراض نظري يتناقض مع الواقع، فتعريف الصالح العام لا يستخدم عمليا مطلقا لتمرير مصالح الفئات اﻷكثر فقرا وإنما يستخدم دائما لخدمة مصالح اﻷكثر نفوذا.

 

في المدى القصير وفي إطار اﻷدوات المتاحة حاليا قد يكون إحداث تعديل جذري للسياسات الاقتصادية للدولة أمرا مستبعدا، ولكن في المقابل ثمة ما يمكن فعله للبناء على القليل الذي تحققه الدعاوى القضائية لاسترداد الشركات المخصخصة. وبدلا من الدوران مطولا في الدائرة المغلقة لمحاولة الضغط على الحكومة لتولي مسؤولية تشغيل هذه الشركات والذي إن تحقق لن يمثل تقدما في حد ذاته إذ لن يكون إخضاع هذه الشركات للبيروقراطية الحكومية أكثر من خطوة نحو إعادة خصخصتها بعد فترة من التدهور الإضافي ﻷحوالها وﻷوضاع العاملين فيها، فربما ينبغي الدفع في اتجاه تحويل تلك الشركات إلى نمط للإدارة الذاتية مع حفظ حق المال العام فيها، وهو توجه إن أحسنت دراسة آليات إنجاحه باﻹمكان تعميمه كبديل عن الخصخصة لتحرير الوحدات الإنتاجية من اﻹدارة البيروقراطية الحكومية التي أثبتت فشلها دون أن يؤدي ذلك إلى التخلي عن الدور الاجتماعي الذي لعبه القطاع العام، إلى جانب الدور الاستراتيجي له المتمثل في استقلالية قرار التنمية المحلي عن التبعية لمصالح الرأسمالية الغربية.

 

انتزاع حكم قضائي جديد لصالح العمال وما يمثلونه من مصالح يشاركهم فيها الأغلبية العظمى من المواطنين هو بلا شك مناسبة تستحق الاحتفاء بها ولكن علينا ألا نقف عند حدود الانتصارات الجزئية دون التفات إلى السياق العام، فمثل هذه الانتصارات تفقد أثرها بسرعة إن لم يتم البناء عليها. كما أن الهدف الحقيقي وراءها لا سبيل إلى تحقيقه دون عمل جاد لتغيير السياق نفسه من خلال طرح بديل يسقط اﻷوهام النظرية التي لا طالما استخدمت لتمرير مصالح فئات بعينها، ويفرض الاعتراف بواقع تتناقض فيه المصالح ولا يمكن التوفيق بينها ومن ثم فإن أي سياسة اقتصادية هي منحازة بالضرورة. وإذا كان علينا التسليم بأن هذا الانحياز لا يمكن تجنبه فإن العدالة تقتضي أن يكون انحيازا يحقق مصالح اﻷغلبية لا اﻷقلية ويرفع المعاناة عن المتضرر لا أن يفاقمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى