ديون | تقارير نرويجية جديدة عن القروض النرويجية لمصر
تمثل الديون السيادية، الناجمة عن اقتراض الدول، واحدة من المشكلات المزمنة للاقتصاد العالمي. فعلى الرغم من أن المعلن والمروج له أن القروض التنموية، أي الموجهة لتمويل مشاريع تنموية في دول العالم الثالث، هي أحد أدوات دفع عجلة التنمية في هذه الدول ودعم نموها، فإن الواقع العملي يؤكد أنه على العكس من ذلك يؤدي تراكم الديون الناجمة عن هذه القروض إلى تكبيل قدرة حكومات دول العالم الثالث عن توجيه قدرا مناسبا من مواردها المحدودة إلى الاستثمار الضروري لدفع التنمية في بلدانها، إذ يقتطع جزء كبير من إنفاقها العام لخدمة الدين العام المتمثلة في سداد أقساط وفوائد هذا الدين. وفي مصر بصفة خاصة تتخطى الموارد الموجهة لخدمة الدين العام ثلث إجمالي الإنفاق في الموازنة العامة.
جزء أساسي من المشاكل الناشئة عن الديون السيادية يتسبب فيه ما يطلق عليه “الإقراض غير المسؤول”، وهو يشير إلى عدم التزام الجهات المقرضة بمعايير محددة وواضحة تضمن توجيه ما تقدمه من قروض إلى مشروعات قابلة للتنفيذ والعمل وذات جدوى تعود على شعوب الدول المقترضة بفائدة تكافئ ما يلقى عليهم من أعباء لسداد الديون الناتجة. ويعقد من هذه المشكلة الواقع السياسي للغالبية العظمى من دول العالم الثالث التي ترزح شعوبها تحت وطأة حكومات استبدادية فاسدة وقمعية. وينشئ هذا الواقع بالتضافر مع ظاهرة “الإقراض غير المسؤول” ما أصطلح على تسميته “الديون الفاسدة”، وهي ديون تراكمت على كاهل دول نامية أو فقيرة ولم يعد أي منها بفائدة حقيقية على شعوبها أو على دفع عجلة التنمية بها وإنما أسهمت في إتخام جيوب مسؤولي هذه الدول وتوجه جزء كبير منها إلى تمويل آلة القمع الممارس على شعوبها.
وفي حين تتجه كثير من الجهات الدولية المانحة تحت ضغوط من منظمات المجتمع المدني الدولية والمحلية إلى إعلان مبادئ أكثر صرامة لمنح القروض بقصد تدارك الثغرات الهائلة في عمليات إقراض دول العالم الثالث، فإن هذه الجهات تتجنب إجراء مراجعات شاملة لما قدمته بالفعل من قروض لكشف ما يندرج منها تحت “اﻹقراض غير المسؤول” و”الديون الفاسدة”، ﻷن ذلك من شأنه أن يوجب إسقاط بعض هذه الديون وهو ما يعرض الموقف المالي لهذه الجهات لمشاكل جمة، وفي حال كون هذه الجهات حكومات دول مانحة فإنه يعرضها أيضا للمساءلة السياسية نتيجة إهدارها ﻷموال عامة.
لهذه الاعتبارات المختلفة تعد مبادرة إحدى الدول المانحة إلى إجراء مراجعة شاملة لما قدمته من قروض تنموية خطوة مختلفة وتستحق الاهتمام، من حيث كونها أولا سابقة ينبغي تسليط الضوء عليها بهدف الضغط على بقية الجهات المانحة لتحذو حذوها، ومن حيث أنها ثانيا تتيح نموذجا لعمليات مراجعة الديون بصفة عامة يمكن أن تستفيد منها الدول المقترضة ذات المصلحة المباشرة في التخلص من أعباء الديون المتراكمة على كاهلها، خاصة إن كانت إرث فترات من الحكم الاستبدادي والفاسد. وفي هذا الإطار يقدم المركز المصري نصي تقريرين لمراجعة القروض التنموية التي قدمتها دولة النرويج لدول العالم الثالث ومن بينها مصر. التقرير اﻷول بادرت الحكومة النرويجية إلى تكليف شركة ديلويت بإعداده ويتضمن مراجعة منهجية لما منحته النرويج من قروض لدول العالم الثالث، أما التقرير الثاني فهو تقرير ظل أعدته منظمة “التحالف النرويجي لإسقاط الديون”، يعرض لدراسة تفصيلية لثلاث دول مقترضة هي إندونيسيا، ومصر، وماينمار. وقد ساعد المركز المصري في إعداد القسم الخاص بمصر في هذا التقرير، كما شاركت “ماهينور البدراوي” ممثلة للمركز في مؤتمر إطلاق التقرير الذي شارك فيه أيضا كل من وزير الخارجية النرويجية وممثل عن فريق ديلويت الذي أعد التقرير الحكومي.
يتعرض التقرير بشكل تفصيلي لجانبين من الإقراض النرويجي لمصر، وهما تمويل مشروع إنشاء رصيف تفريغ وشحن الحاويات بميناء بورسعيد (في الفترة من 1980 وحتى 1984)، وشراء الحكومة النرويجية لسندات خزانة مصرية. وحسب التقرير يبلغ إجمالي الدين النرويجي المستحق على مصر 25.2 مليون كرونه نرويجية، ويمثل في رأي معدي التقرير نموذجا للمشاكل الملازمة للقروض المقدمة في صورة ضمان ائتماني لصادرات من الدولة المانحة. في هذا النوع من القروض تمول الدولة المقرضة حصول الدولة المقترضة على خدمات أو سلع من شركات تحمل جنسية الدولة اﻷولى بهدف إنشاء مشروع ما. ويفترض أن هذا النوع من القروض يحقق منفعة متبادلة للدولتين بحيث يتاح للدولة المقرضة تنشيط قطاعيها الصناعي والخدمي، ولكن حسب التقرير يعيب هذا النوع من القروض تغليب مصالح الشركات النرويجية على مصالح التنمية في الدولة المقترضة. ويعرض التقرير اﻵثار السلبية للمشروع والطريقة التي نفذ بها على نواحي منها المقارنة بين الوظائف التي خلقها المشروع وتلك التي أدت إلى فقدان أصحابها لها، كما يوضح أن شروط العقد المجحفة فرضت استيراد 70% من احتياجات المشروع من شركات نرويجية بينما فرضت ألا تزيد نسبة المنتج المحلي المصري في هذه الاحتياجات عن 15% وهي في الواقع نسبة إسهام الجانب المصري في تكاليف المشروع بمعنى أنه لم يتم تمويل شراء أي منتج محلي من القرض النرويجي ذاته.
على جانب آخر أوضح التقرير المشاكل المتعلقة باﻹقراض من خلال شراء سندات الخزانة للدولة المقترضة حيث يمثل تمويلا مباشرا وعاما غير مقيد بمشروعات تنموية محددة، وفي الحالة المصرية فإن هذا النوع من القروض كان إسهاما مباشرا في تمويل النظام المصري في عهد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك في وقت تصاعد فيه اتجاه هذا النظام إلى قمع المعارضة السياسية والاحتجاجات العمالية ضده، مما ألجأه إلى توجيه جانب كبير من إنفاقه إلى أجهزته اﻷمنية.
إن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إذ يعرض هذين التقريرين فإنه يهدف بجانب إتاحة المعلومات التفصيلية الخاصة بالديون المستحقة على مصر تجاه النرويج إلى طرحهما كنموذج لعملية مراجعة للديون تكاملت فيها الجهود الحكومية وجهود منظمات المجتمع المدني للوصول إلى كشف أمين للحقيقة وإلى توصيات صحيحة لمتخذي القرار، وبرغم الاختلافات بين التقريرين فإن الحكومة النرويجية أبدت اهتماما كبيرا بما أضاءه تقرير الظل من جوانب أغفلها التقرير الحكومي أو اختلف تقديره حيالها، وهو نمط من التعاون جدير بأن تحتذي به الحكومة المصرية تجاه منظمات المجتمع المدني المصري. اﻷهم من ذلك أنه في حين تمثل الديون النرويجية جانبا ضئيلا من إجمالي الدين العام المصري فإنها تبقى ممثلة لعدد من المشاكل الرئيسية الكامنة في بقية الديون الخارجية المستحقة على مصر، وهو ما يوجب أن تنشط الحكومة المصرية لبدء برنامج شامل لمراجعة ديون مصر الخارجية بمعاونة منظمات المجتمع المدني المحلية والخارجية، وذلك من شأنه أن يتيح إسقاط جانب كبير من هذه الديون التي تراكمت في ظل حكومات عهد مبارك المتعاقبة وتندرج تحت “الديون الفاسدة”، ولا شك أن إسقاط هذه الديون سيرفع جانبا كبيرا من العبء الملقى على الموازنة المصرية مما يحرر جانبا من الموارد لاستثماره في تنشيط التنمية وتحسين الخدمات العامة وجميعها احتياجات ماسة وضرورية للاقتصاد والمجتمع المصري في هذه المرحلة.