فى يوم الأربعاء الموافق 6/3/2013 كانت مصر على موعد جديد مع مجلس الدولة المصرى حصن المشروعية الذى نلوذ به عند جور أى سلطة على حقوقنا أو حال الاعتداء على حرياتنا أو العصف بالضمانات الدستورية والحقوقية حيث أصدرت محكمة القضاء الإدارى برئاسة المستشار عبد المجيد المقنن نائب رئيس مجلس الدولة، وبعضوية المستشار سامى درويش، والمستشار الدكتور جابر محمد حجى نواب رئيس مجلس الدولة، الحكم فى الدعوى رقم 28560 لسنة 67 قضائية الذى قضى بوقف تنفيذ قرارى رئيس الجمهورية رقم 134 لسنة 2013 وبرقم 148 لسنة 2013 مع ما يترتب على ذلك من آثار أخصها وقف تنفيذ إجراء انتخابات مجلس النواب بمراحلها المختلفة والتى كان محدد لبدايتها 22/4/2013، وقضى كذلك فى موضوع الدعوى بوقف نظر الموضوع وبإحالة الأوراق بغير رسوم إلى المحكمة الدستورية العيا للفصل فى مدى دستورية القانون رقم 2 لسنة 2013.
وإذا كان الظاهر من هذا الحكم هو تأجيل الانتخابات وإعادة التعديلات التى أقرها مجلس الشورى بالقانون 2 لسنة 2013 للمحكمة الدستورية لتقرر مدى دستوريتها من عدمها، فإن الجانب الفنى والقانونى فى هذا الحكم وأثره السياسى ربما يكون خافيًا -على غير القانونيين- رغم أنه جوهر وأساس هذا الحكم وهو ما استدعى منا كتابة هذا المقال لإيضاح القيمة السياسية والقانونية لهذا الحكم وما احتواه من حيثيات تتجاوز فكرة تأجيل الانتخابات، بل وتعلو عليها قيمة. ولا نبالغ حين نصفه بالزلزال الذى أصاب النظام الحاكم مما انعكس على تصريحاته وبياناته وسلوكياته التى جاءت مرتبكة ومتناقضة بشأن هذا الحكم. ونرى أن هذا الحكم قد أضاء الطريق فى عدة محاور بالغة الأهمية كأنه يوجه عدة رسائل إلى المجتمع حكامًا ومحكومين، وقد جاءت فى ست رسائل:
انتبهوا فقد تم تحويل نظام الحكم
تمسكت المحكمة بإعمال وإنفاذ نص المادة 141 من الدستور الجديد على تصرفات رئيس الجمهورية ومنها دعوة الشعب للانتخابات النيابية، التى دعا لها محمد مرسى بنفس الطريقة التى كان مبارك يسلكها متجاهلا ما فرضه الدستور الجديد من قواعد تنتقل بالنظام الحاكم فى مصر من النظام الرئاسى إلى النظام المختلط «برلمانى-رئاسى» وما يستتبعه ذلك من عدم انفراد رئيس الجمهورية باتخاذ تلك القرارات وإلا عُدَّ القرار مخالفا لأحكام الدستور وخضع لرقابة المشروعية التى تختص بها هذه المحكمة. فالمادة «141» من الدستور، النافذ من 25/12/2012، تنص على أن «يتولى رئيس الجمهورية سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابة والوزراء عدا ما يتصل منها بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية والسلطات المنصوص عليها بالمواد (139) و(145) و(146) و(147) و(148) و(149) من الدستور».
وقد أكدت المحكمة فى تطبيق هذه المادة أن «الأصل هو تولى رئيس الجمهورية سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، أما اختصاصات رئيس الجمهورية التى يباشرها منفردا فهى استثناء من هذا الأصل، وهى على سبيل الحصر: المسائل المتعلقة بالدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية، والسلطات المنصوص عليها بالمادة (139) المتعلقة باختيار رئيس مجلس الوزراء، والمادة (145) المتعلقة بتمثيل الدولة فى علاقاتها الخارجية وإبرام المعاهدات، والمادة (146) والمتعلقة بقيادة القوات المسلحة وإعلان الحرب، والمادة (147) المتعلقة بتعين الموظفين وعزلهم واعتماد الممثلين السياسيين للدول والهيئات الأجنبية، والمادة (148) الخاصة بإعلان حالة الطوارئ، والمادة (149) الخاصة بالعفو من العقوبات أو تخفيفها، وما عدا الاختصاصات المشار إليها المسندة حصرا لرئيس الجمهورية، فإن جميع اختصاصات رئيس الجمهورية المنصوص عليها فى الدستور أو فى القوانين يتعين أن يباشرها بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، وتنعقد المسؤولية السياسية عن هذه الأعمال لرئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء».
تحدد شكل ممارسة الرئيس لاختصاصاته بواسطة مجلس الوزراء
لم تكتفِ المحكمة بالتمييز بين الاختصاصات التى ينفرد بها رئيس الجمهورية والاختصاصات التى يمارسها بواسطة رئيس الوزراء والوزراء وإنما رسمت الطريق الذى يجب أن تخرج من خلاله هذه القرارات أو تلك لتكون متفقة مع صحيح القانون والدستور فأكدت المحكمة أن الاختصاصات المسندة إلى رئيس الجمهورية بمفرده «تصدر فى شكل قرار جمهورى يوقعه الرئيس ولا يلزم أن يوقع عليها رئيس الوزراء أو الوزراء»، أما الاختصاصات التى يمارسها رئيس الجمهورية بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء فأكدت المحكمة أنه «يتعين أن تصدر فى شكل قرار منه وهو ما اصطُلح على تسميته بالمرسوم) ممهورا بتوقيع رئيس مجلس الوزراء ومن الوزير المختصّ ثم من رئيس الجمهورية. إذ إن توقيع رئيس مجلس الوزراء والوزير المختص على المرسوم هو الدليل على أن مجلس الوزراء باعتباره المسؤول سياسيًّا قد باشر اختصاصه بالفعل فى شأن الأعمال محل ذلك المرسوم أو القرار وبأنها تمت فى الشكل القانونى»، والشكل القانونى هنا ليس مجرد برواز إجرائى يمكن تجاوزه ولكنه إجراء جوهرى، فهو ركن من أركان صحة القرار أو السلوك الإدارى قرره المشرع الدستورى كضمانة يتحقق بها النظام المختلط ومن ثم يترتب على تجاهلها البطلان، لذا أوضحت المحكمة أنه «إذا انفرد رئيس الجمهورية بإصدار القرار فى أى اختصاص من اختصاصاته التى يجب أن يتولاها بواسطة مجلس الوزراء دون أن يثبت عرض الأمر على مجلس الوزراء أولا لينظره فى جلسته. ويوافق عليه بعد المناقشة والمداولة فيه ثم يوقع على مشروع المرسوم من رئيس مجلس الوزراء والوزير أو الوزراء المختصين فإن قرار رئيس الجمهورية فى هذا الشأن يكون باطلا لمخالفتة المبدأ الدستورى المتعلق بممارسة رئيس الدولة سلطاته بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء، والمنصوص عليه فى المادة (141) من الدستور على وجه يشكل عدوانا على الاختصاصات الدستورية المقررة لمجلس الوزراء».
تكشف عن بطلان إصدار القوانين منذ نفاذ الدستور
إن مضمون الحكم يفيد بأن كل اختصاصات رئيس الجمهورية فى القوانين واللوائح عدا تلك المستثناة على سبيل الحصر فى المادة «141» من الدستور يجب أن يباشرها بواسطة رئيس الوزراء والوزراء، إن مارسها الرئيس منفردا فهى باطلة بما فيها إصداره القوانين أو الاعتراض عليها، وهو ما يعنى بطلان كل القوانين التى صدرت من مرسى منذ نفاذ الدستور فى 25 ديسمبر 2012 حتى الآن لكون رئيس الجمهورية يباشر هذه السلطة استنادا إلى المادة «104» من الدستور، وهى ليست من المواد المستثناة بالمادة 141 من الدستور. لذا ذهب الحكم إلى «ولما كانت سلطة رئيس الجمهورية فى إصدار القوانين أو الاعتراض عليها من السلطات التى يتولاها بواسطة رئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء طبقا لنص المادة (141) من الدستور، وإذ تبين من ظاهر الأوراق أن رئيس الجمهورية أصدر القانون رقم (2) لسنة 2013 المشار إليه منفردا دون العرض على مجلس الوزراء ليقرر ما يراه فى شأن إصداره بحسبان أن رئيس الجمهورية لا يمارس هذا الاختصاص إلا من خلال مجلس الوزراء على النحو سالف الذكر، ومن ثم فإن ذلك القانون صدر بالمخالفة لنص المادة (141) من الدستور».
وكل ذلك يعنى انسحاب هذا البطلان على كل القرارات الجمهورية التى أصدرها مرسى بشكل منفرد وتخرج عن الحالات الواردة بالمادة «141» من الدستور.
أعمال السيادة لا تخرج عن إطار الشرعية الدستورية
دائما ما تُستخدم نظرية أعمال السيادة للهروب من الرقابة القضائية، فما إن يصدر الرئيس أى قرار حتى يخرج الفقهاء التابعون ليصفوه بهذا الوصف. بالطبع هى نظرية تنال من مبدأ المشروعية ومن مبدأ خضوع الدولة للقانون وتُهدِر حقوق وحريات الأفراد فى مواجهة السلطة. وغنى عن البيان أن المشرع المصرى لم يضع حتى الآن تعريفا لها وإنما تركها للقضاء ليبحثها القاضى فى كل منازعة ويحكم بمدى توافرها فى النزاع من عدمه. فهناك من يتوسع فى تطبيقها ويطلقها على أى عمل له جانب سياسى وهناك من يحاول أن يضع المعايير التى تجعل تطبيق هذه النظرية فى أضيق نطاق ممكن وفى هذه القضية اجتهدت المحكمة لتدعم معيار أن الأعمال أو القرارات التى يطلق عليها وصف السيادية يجب أن تخضع للقانون والدستور وأن يباشر الرئيس مهامه فى نطاقهما وإلا سيُضحِى التستر بالأعمال السيادية وسيلة للهروب من الرقابة القضائية، لذلك عندما دفع محامى الحكومة بعدم اختصاص المحكمة ولائيًّا بنظر الدعوى لكون القرار المطعون عليه من أعمال السيادة والتى لا تخضع لرقابة القضاء ردَّت المحكمة على هذا الدفع بأن إسباغ وصف «أعمال السيادة» على أى قرار أو عمل قانونى يستوجب أن يكون متفقا وأحكام الدستور، فقالت: «ولا يجوز التمحل بأعمال السيادة فى غير محله، فإن كان القرار ظاهر المخالفة لأحكام الدستور فلا يعصمه من رقابة القضاء أن يستتر فى ستر أعمال السيادة».
تتضامن مع المحكمة الدستورية العليا
لم يتجاهل الحكم الحرب الإعلامية والسياسية التى شنها النظام الحاكم على محكمتنا الدستورية العليا وحاول الذود عنها عبر إظهاره طبيعة الرقابة الدستورية السابقة، وكيفية تحقيقها، وتأكيد أن المحكمة الدستورية كانت تباشر اختصاصها المنوط بها، وأنها لم تتجاوز هذا الاختصاص، وأنها صاحبة الولاية الوحيدة لتقرر ما هو دستورى وما هو غير ذلك، وأن هذه الرقابة لا تتحقق إلا بقرار من المحكمة، وأن ذلك كله لا يمثل أى عدوان على البرلمان (مجلس الشورى) الذى يمارس سلطة التشريع حاليا، وأكد الحكم أن الرقابة الدستورية يجب أن تطبق بشكل حقيقى وإلا تفرغ من مضمونها حيث ذهب إلى أن:
لجوء الدستور إلى هذا الأسلوب قد قصد منه توقِّى إجراء الانتخابات المشار إليها وفقا لنصوص قد تكون مخالفة للدستور وحتى لا تبطل الانتخابات الرئاسية أو البرلمانية أو المحلية، الأمر الذى كان يستلزم أن يُعرض قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون انتخابات مجلس النواب كمشروعَى قانونين كاملين على المحكمة الدستورية العليا لإعمال رقابتها السابقة على كل نصوصهما، وأن يلتزم مجلس الشورى -الذى يتولى مؤقتا سلطة التشريع- بإعمال مقتضى قرار المحكمة الدستورية العليا إذا قررت عدم مطابقة نص أو أكثر لأحكام الدستور، فإذا أجرى مجلس الشورى تعديلات جديدة على مشروع القانون تنفيذا لقرار المحكمة وجب إعادة المشروع إلى المحكمة الدستورية لبيان ما إذا كانت التعديلات الجديدة مطابقة لقرارها من عدمه، ذلك أن المحكمة تبدى ملاحظاتها ولا تعيد صياغة المواد التى ترى عدم مطابقتها لنصوص الدستور فى شكلها النهائى المطابق للدستور، وإنما يتعين على مجلس النواب -الشورى حاليا- بعد أن يجرى التعديلات التى حددتها أن يعيد إليها المشروع من جديد لمراقبته، ولا وجه للقول بأن الدستور لم يُلزِم المجلس المختص بالتشريع أو رئيس الجمهورية بإعادة عرض مشروع القانون من جديد بعد أن يعدل النصوص التى قررت المحكمة عدم مطابقتها للدستور، وذلك أن الرقابة الدستورية السابقة هى عملية فنية لا يملك الحكم على تمامها كاملة إلا للجهة صاحبة الولاية الدستورية وهى المحكمة الدستورية العليا، ولا يتصل الأمر من قريب أو من بعيد بالثقة أو عدم الثقة بالمجلس الذى يتولى التشريع إذا لم يسند إليه الدستور حسم دستورية ما يتولاه من تشريع وإلا لما نص الدستور على تلك الرقابة وأسندها إلى المحكمة الدستورية العليا، والأصل أن كل سلطة مقيَّدة بحدود اختصاصاتها وولايتها ولا يجوز لها أن تفرِّط فيها أو أن تتعداها.
كما أن القول بعدم التزام المجلس بالتشريع بإعادة عرض التعديلات التى يجريها على المحكمة الدستورية العليا يفرغ فكرة الرقابة السابقة من مضمونها إذ يترتب على ذلك إمكانية التحلل من الرقابة السابقة عندما يجرى المجلس التعديلات بالكيفية التى يراها ويعلن أنه أعمل مقتضى قرار المحكمة لا سيما إذا كان موقنا أنه يفعل ذلك من غير معقب عليه فى هذا الشأن.
الرقابة الدستورية اللاحقة لم تنتهِ بعد
أكد الحكم أن المحكمة الدستورية العليا هى صاحبة ولاية الفصل فى دستورية القوانين واللوائح، وإذا كان الأصل هو الرقابة اللاحقة والاستثناء هو الرقابة السابقة، فإن الرقابة السابقة تتحقق حال تنفيذ قرار المحكمة الدستورية، وعدم تنفيذ قرارها لا يمنع الدستورية من بسط وفرض رقابتها اللاحقة على النصوص التى لم تخضع لرقابتها السابقة بشكل حقيقى، فقد ذهب الحكم إلى أنه:
إن صدر قانون دون استيفاء الرقابة السابقة على وجه كامل وصحيح فإنه يخضع لأحكام الرقابة اللاحقة فضلا عن أن الرقابة السابقة هى رقابة ترد على نصوص مشروع القانون أى تتصل بموضوع ومحل تلك النصوص دون أن تمتد إلى رقابة دستورية ذلك المشروع حال عدم إعادتها إلى المحكمة مرة أخرى وما إذا كانت قد تمت فى حدود أحكام الدستور ولائحة المجلس الذى يتولى التشريع من حيث استيفاء النصاب اللازم لإقرارها وغيرها من الأسباب المتعلقة بشكل وإجراءات إقرار التشريع، كذلك لا تمتدّ إلى رقابة إصدار القوانين وما قد يشوبها من عيوب مخالفة للدستور، والقول بحظر الرقابة اللاحقة مطلقا على القوانين المشار إليها فى الفقرة الأولى من المادة «177» من الدستور يعنى تفلُّت تلك القوانين من رقابة الدستورية، ولا يكون من سبيل أمام المحاكم التى تطبق تلك القوانين إلا أن تمتنع عن تطبيقها، وهذا الوجه من الرقابة تم تجاوزه بعد إنشاء المحكمة الدستورية العليا صاحبة الاختصاص الآجل برقابة دستورية القوانين، الأمر الذى يستوجب خضوع تلك القوانين التى لم تخضع للرقابة السابقة على وجه صحيح أو التى خضعت لها وشاب إقرارها او إصدارها مخالفة لأحكام الدستور، للرقابة اللاحقة، إعمالا للأصل المقرر فى المادة «175» من الدستور.
هكذا جاءت الرسائل الست لمجلس الدولة المصرى، وبقدر أهميتها وجوهريتها فهى تجرفنا جميعا لنطرح السؤال: هل تبنت جماعة الإخوان المسلمين النصوص الدستورية وهى لا تعلم فحواها وتأثيرها على نظام الحكم، أم أنها كانت تعد العدة ليكون رئيس الوزراء -الحالى أو القادم- هو الحاكم الفعلى للبلاد؟.
* نشرت هذه الدراسه في جريدة التحرير بتاريخ 16 مارس 2013 .. ويمكن الإطلاع عليها علي موقع جريدة التحرير عن طريق هذا الرابط
ضع تعليقا