مالك عدلي
مدير شبكة المحامين، المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية
رابط الموضوع على موقع منظمة العفو الدولية
ربما يمكننا القول بكل أريحية أن تجربة ‘جبهة الدفاع عن متظاهري مصر‘ واحدة من التجارب المشرفة والنادرة في تاريخ الحركة الحقوقية المصرية، بل ويمكن أن تكون كذلك في العالم كله، تلك الجبهة التي تكونت بدعوة من مركز هشام مبارك للقانون حيث دعى إلى تأسيسها وكان أول منسق لها المحامي والمناضل الحقوقي خالد علي “مدير مركز هشام مبارك في ذاك الوقت” في شهر نيسان/أبريل من العام 2008 (إضراب 6 أبريل) تحسبا واستعدادا لتقديم الدعم القانوني اللازم للمتظاهرين والعمال الذين أزمعوا الإضراب اعتراضا على سياسات نظام مبارك المخلوع، تلك الدعوة التي لاقت قبولا شعبيا واسعا. وكانت مخاوف الحقوقيين وقتها تتركز في أن تقابل تلك الاحتجاجات بعنف مبالغ فيه من قبل النظام، ونظرا لاتساع نطاق الدعوة كان لزاما على الحقوقيين والقانونيين في ذاك الوقت التفكير في طريقة تمكنهم من أداء دورهم في دعم المحتجين السلميين في كافة مناطق الاحتجاج ضد نظام اتسمت سنواته الأخيرة بالعنف والقمع المبالغ فيه.
وبمجرد انطلاق الدعوة لتشكيل تلك الجبهة، انضم إليها عدد من المؤسسات الحقوقية والمحامين المتطوعين في عدد كبير من محافظات مصر، وطورت الجبهة من آليات عمل المنظمات الحقوقية فلم تقتصر جهود الجبهة على تقديم الدعم القانوني فقط بل امتدت لتشمل الدعم الإعلامي والطبي والنفسي لأسر المعتقلين وإعاشة أبناؤهم وحصرهم ومتابعتهم داخل السجون حتى أصبحت الجبهة في ذاك الوقت مصدرا شبه حصري لأخبار ومتابعة الاحتجاجات. ولم تكن الجبهة تجربة وقتية بل ساعد نجاحها في مهمتها في تقديم كافة أشكال الدعم للمحتجين في نيسان/أبريل 2008 وعلى استمرارها لدعم قطاع واسع من المحتجين السلميين في مصر، ولم تكن الجبهة فقط خلية أساسية لمقاومة وفضح انتهاكات حقوق الإنسان ضد معارضي نظام مبارك من كافة القطاعات بل كانت أيضا مهدا لعدد كبير من الحقوقيين الشباب الذين بزغ نجمهم فيما بعد وأصبحوا يشكلون الآن عماد الصفوف الأولى من المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر. فقد اجتذبت الجبهة إلى صفوفها مدافعين عن حقوق الإنسان من كافة المجالات (محامين، أطباء، صحفيين، محدثي بيانات ، مطوري برامج ، ناشطين حقوقيين، أكاديميين، مصورين …. إلخ ). ومع اتساع رقعة الاحتجاجات ضد نظام مبارك الذي تزامن مع رسوخ أقدام ‘جبهة الدفاع عن متظاهري مصر‘، أصبحت الأخيرة ملاذا لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان باعتبارها ثمرة يانعة لتعاون غير مسبوق بين عدد من المنظمات الحقوقية الفاعلة في مصر وبين شبكة واسعة من المتطوعين، وأخذت الجبهة على عاتقها مهمة التطوع لتقديم كافة أشكال الدعم الممكنة للمحتجين السلميين في مصر بدءا من 6 نيسان/أبريل 2008 وتحرك فلاحي سراندو وأهالي جزيرة محمد وأحداث كنيسة العمرانية ومظاهرات الحد الأدنى للأجور والاحتجاجات التي شهدتها مصر في 6 نيسان/أبريل 2009 و2010 واعتصامات واضرابات العمال في مناطق مختلفة وموجة الاحتجاج التي شهدتها مصر عقب مقتل الشهيد خالد سعيد بسبب التعذيب في الإسكندرية وموجة الاحتجاج على أحداث كنيسة القديسين … وبالتزامن مع ذلك طورت الجبهة من أدائها بتدريب قطاعات واسعة من النشطاء السياسيين على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان واستخدام الإعلام الإلكتروني والشبكات الاجتماعية لفضح تلك الانتهاكات، وحقوقهم القانونية في الاحتجاج السلمي وكيفية التصرف في المواقف المختلفة التي يتعرضون لها من قبل السلطة.
وبالرغم من المضايقات والتهديدات التي تعرض لها عدد من أعضاء الجبهة إلا أن ذلك لم يثنيهم عن عزمهم، ومع بدء الدعوة لتظاهرات 25 كانون الثاني/يناير 2011 أدرك أعضاء الجبهة أن بانتظارهم عملا طويلا وجهدا لا بد من تنظيمه ليقدموا الدعم اللازم للمحتجين السلميين المتوقع تعرضهم للقمع، وبالفعل قام أعضاء الجبهة بمجهود خرافي في تلك الأيام. وقد كانت كل مقرات المنظمات أعضاء الجبهة هي مقرات لنشاطها وخلال ثورة 25 يناير تحول مقري الجبهة بالمبنى رقم 1 بشارع سوق التوفيقية (مقر مركز هشام مبارك للقانون ومقر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) إلي ما يشبه خلية نحل يعمل كل من بداخلها بلا كلل أو ملل لمتابعة الأحداث ورصد الانتهاكات وحالات القبض التي تمت على المتظاهرين ومعرفة أماكن احتجازهم وتجهيز مواد الإعاشة اللازمة وتقديم العلاج والإسعافات للمصابين لحين التمكن من نقلهم للمستشفيات، حيث تجاوز عدد المقبوضين عليهم في القاهرة وحدها الألف معتقل حضر معهم محامون من الجبهة وقدموا لهم الدعم القانوني اللازم الذي انتهي بإخلاء سبيلهم جميعا. وحين تم قطع الاتصالات وخدمات الإنترنت توصل أعضاء الجبهة إلى حل للتغلب على تلك المشكلة وإخبار العالم كله بما يحدث في مصر أولا بأول عن طريق الفاكس وباستعمال مزود لخدمة الإنترنت لم تنقطع عنه الخدمة لأسباب تقنية وعن طريق التواصل مع المدونين المصريين المتواجدين بالخارج. وظل أعضاء الجبهة يوثقون حالات الإصابة والقتل لعدة أيام حتى تم اقتحام مقري الجبهة بمركز هشام مبارك للقانون والمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من قبل الشرطة العسكرية في يوم 2 شباط/فبراير والقبض على كل المتواجدين فيه والاستيلاء على كافة الأجهزة والأوراق الموجودة بالمكان. وعقب إخلاء سبيلهم عادوا مرة أخرى لمواصلة عملهم متغلبين على أيام الاحتجاز العصيبة، وبذلك استمر عمل الجبهة في تقديم الدعم القانوني لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من الثوار ودعم أهالي الشهداء والمصابين. ومع اشتداد القمع عقب تولي المجلس العسكري الحكم وتزايد حالات الاعتقال والتعذيب وهو الأمر الذي استوجب تأسيس مجموعة ‘لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين‘ وفضح انتهاكات المجلس العسكري الذي تولي السلطة بعد خلع مبارك. وتأسست المجموعة التي أخذت على عاتقها النضال من أجل محاكمات عادلة للمدنيين أمام القضاء الطبيعي وفضح أداء القضاء العسكري الاستثنائي المتردي والغاشم.
وشكل فريق المحامين في الجبهة جزءا لا يتجزأ من مجهود تلك المجموعة الرائعة التي ما زالت تناضل ضد المحاكمات العسكرية للمدنيين، ذلك إلى جانب المجهود القانوني الذي بذله أعضاء الجبهة في بعض المحطات التي شكلت تحديا حقيقيا مثل مذبحة ماسبيرو وأحداث مجلس الوزراء وشارع محمد محمود، نظرا لضخامة عدد المقبوض عليهم والذي تجاوز الألف معتقل وتعدد مراكز التحقيق ما بين النيابة العسكرية والنيابة العامة، ما وضع ‘جبهة الدفاع عن متظاهري مصر‘ على عرش الدعم القانوني لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان خلال تلك الأحداث و ما تلاها. ومع تولي “محمد مرسي” رئاسة الجمهورية بدأت موجة أعنف من القمع والاعتقال بدءا من شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2012 تزامنا مع إحياء ذكرى محمد محمود وأحداث سيمون بوليفار ومذبحة الاتحادية وأحداث ذكرى الثورة التي شملت عددا كبيرا من محافظات مصر، حيث استطاعت ‘جبهة الدفاع عن متظاهري مصر‘ المساهمة في تقديم الدعم القانوني لقرابة الخمسة آلاف معتقل في مدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر بالتعاون والتنسيق مع مجموعات أخرى. وقد نجح الجميع في تقديم دعم قانوني مناسب لهؤلاء المتظاهرين سواء أمام النيابات أو المحاكم المختلفة وفي توفير مواد إعاشة لهذه الأعداد الضخمة بل والمساهمة أيضا في سداد الكفالات المالية لغير القادرين عن طريق التبرعات ومساهمات مجموعات وشخصيات ثورية مختلفة. وحتى الآن وبالرغم من نضال الجبهة الذي بدأ منذ عام 2008، ما زالت تقوم بدورها الذي نذرت نفسها له على أكمل وجه وهو ما جعلها أحد مصادر قلق السلطات القمعية في مصر.
ومن أبرز إنجازات الجبهة على مدار تلك السنين عددا من الأمور :
أولا: شكلت الجبهة في حد ذاتها آلية لنقل وتبادل الخبرات بين المحامين النشطاء بحيث أصبح عدد منهم من أبرز كوادر الحقوقيين الشباب في مصر وهو ما ساهم في تجديد دماء المجتمع الحقوقي والعمل التطوعي في مصر؛
ثانيا: نجحت الجبهة في تضفير مجموعة من الجهود جعلتها جدارا صلبا في مواجهة سلطات القمع حيث لم يقتصر عمل الجبهة على النشطاء القانونيين فقط ولكن شمل أطباء ونشطاء إعلاميين وتقنيين ومدونين وباحثين؛
ثالثا: نجحت الجبهة في خلق بديل عفوي ومحلي لتمويل نشاطها بالقدر اللازم ما تكفل بضمان استمراريتها على مدى قرابة الست سنوات وكان من أهم عناصر هذا التمويل الجهود التطوعية لعدد كبير من أعضائها والتي إن قدرت بمال يمكن أن تتجاوز بضعة مليونات من الجنيهات؛
رابعا: كان للجبهة بالتعاون مع المنظمات الحقوقية من أعضائها فضل خلق حيز إعلامي لا يستهان به وقد أولى اهتمام بقضايا انتهاكات حقوق الإنسان ومتابعتها وعرضها على الرأي العام بشكل منحاز لحقوق الإنسان مما شكل أداة ضغط جديدة على السلطات القمعية؛
خامسا: نجحت الجبهة في تشكيل حملات عدة لها صدى في الشارع المصري وتأثير على السلطة فيما يتعلق بعدد من قضايا انتهاكات حقوق الإنسان منها على سبيل المثال تقييد المقبوض عليهم بالقيود الحديدية في المستشفيات واعتقال الأحداث والمعاملة الغير إنسانية للمعتقلين وأماكن الاحتجاز غير القانونية.
وما زالت ‘جبهة الدفاع عن متظاهري مصر‘ تبدع في عطائها وتطور من آلياتها وتجتذب متطوعين وحقوقيين جدد لدعم قضايا انتهاكات حقوق الإنسان في مصر حتى تاريخ كتابة هذه السطور ، لا سيما في ظل تلك الموجة العنيفة من ثورة يناير “30 يونيو” وسقوط أعداد أخرى من الشهداء والمصابين ومحاولة أعضاء الجبهة حصر وتوثيق الانتهاكات وتقديم الدعم القانوني والمعلوماتي اللازم لأسر الضحايا، ومحاولة الحفاظ على توجهها المهني والحقوقي وبعدها عن أي انتماء حزبي أو سياسي في ظل موجة من العنف والإرهاب من قبل بعض التيارات الدينية المتطرفة تجاه المعارضة في مصر قد تفتح بابا لبعض انتهاكات حقوق الإنسان بمباركة شعبية.
وربما يكون من المهم في هذا الوقت الذي يشهد العالم في عدد من بلدانه أوضاعا وممارسات قمعية مماثلة نتيجة اتساع رقعة الاحتجاج ضد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تلك البلدان أن يتم إلقاء الضوء على تجربة جبهة الدفاع عن متظاهري مصر والنظر إليها بشكل متأني أملا في تعميم تلك التجربة لدعم قضايا انتهاكات حقوق الإنسان ومواجهة قمع السلطة حيثما وجدا .
ضع تعليقا