بعد 100 يوم من العمليات العسكرية الموسعة انتهاكات منهجية مستمرة ومعاناة خانقة في سيناء

عانى سكان سيناء من ظلم نظام مبارك وبطش داخلية العادلي أكثر مما عانت منه سائر أنحاء مصر، حتى امتدت العقوبات الجماعية والعشوائية إلى التمييز على أساس محل الإقامة في بطاقة الهوية والزي البدوي والأصل العائلي. ثم برقت ثورة يناير للمواطنين في سيناء بالأمل في أن تتحقق مواطنتهم كاملة، وأن يستردوا حقوقهم الإنسانية العامة، وحقوقهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على وجه الخصوص. لكن الفترة الانتقالية الأولى، أثناء حكم المجلس العسكري، لم تأت لهم سوى بالتراخي الأمني والوعود غير الصادقة بالتنمية المؤجلة ورفع المظالم الموروثة عن نظام مبارك، مما عزز انتشار السلاح والبلطجة، ولم يمس أصول مشكلات التطرف والإرهاب. وفي حكم الرئيس المعزول محمد مرسي، شهدت سيناء، بين ما شهدت، جريمة غير مسبوقة بحق مواطنين يقضون فترة خدمتهم العسكرية الإجبارية على أرضها، فتم تصفية 16 جندياً في مذبحة رفح الأولى في أغسطس 2012. أسقط بعدها رصاص الإرهاب شيخاً قبلياً (الشيخ خلف المنيعي) وابنه، كان قد دعا القبائل للتصدي للجماعات المسلحة ومعاونة السلطة في مواجهتهم.
مرت السنة الكبيسة، التي انتهت بموجة ثورية ضد السلطة الإخوانية المتورطة في دماء عشرات المواطنين، قتلوا برصاص الداخلية في السويس وبورسعيد في يناير 2013، كما تورطت في العديد من الانتهاكات بحق هل سيناء، مثل الاعتداء على المواطنات ربات المنازل أثناء الإخلاء القسري لبعض الأسر من عائلة الكاشف من أرض متنازع عليها مع الجيش في 3 يونيو 2013.
منذ اليوم الأول من الفترة الانتقالية الثانية، الجارية حتى الآن، يدفع أهل سيناء أثمان سوء الإدارة وأحادية النظرة الأمنية للتحديات المعقدة التي تواجه المجتمع المصري عموماً، والمجتمع المحلي السيناوي خصوصاً. فتم إغلاق جسر “السلام” الواصل بين ضفتي قناة السويس حتى الآن، ليبدأ مسلسل الإذلال الجماعي في صفوف السيارات الممتدة لعدة كيلومترات في انتظار دورها للعبور في المعديات القديمة. أما حظر التجوال الذي كان يبدأ في شمال سيناء في الساعة الرابعة عصراً، فقد بلغ التعسف في استثناء سيناء من القواعد المعمول بها في أرجاء الجمهورية درجة التسبب المباشر في مذبحة الجنود الثانية في 19 أغسطس المنصرم، حيث اضطر الجنود إلى المبيت في موقف سيارات الأجرة بالعريش، مما كشف عن هويتهم وسهّل من تعقبهم واستهدافهم.
منذ منتصف يونيو 2013، وثق باحث المركز المصري انتهاكات فجة امتدت من سانت كاترين في جنوب سيناء إلى الخط الحدودي بمدينة رفح في أقصى الشمال الشرقي. شملت هذه الانتهاكات: محاولة قتل شيخ قبيلة القرارشة (الشيخ أحمد حسين الهريش) على يد قوة شرطة سانت كاترين، والتعدي عليه بالضرب والسب والقذف، وتهديد القبيلة بالتهجير القسري من أرضها التاريخية، وذلك إثر مشادة في محطة بنزين كان يتوسط الشيخ لحلها. كما امتدت الانتهاكات شمالاً ليتساقط المواطنون، من الرجال والأطفال والنساء، بالرصاص العشوائي الذي تبادر به قوات الجيش والشرطة في نقاط التفتيش والمرتكزات الأمنية دون داع، ثم يتراجع المتحدث العسكري عن زعمه غير الصحيح بإحباط محاولة لاغتيال قائد الجيش الثاني الميداني، في الحادث الذي قتلت فيه الطفلة آية سيد محمد (4 سنوات).

تصاعدت الانتهاكات الفردية المرتكبة من قبل جنود وضباط لا يلتزمون بالمعايير والضوابط الأمنية المهنية، ولا تحاسبهم الأجهزة والسلطات التي يعملون بها، سواء الشرطة أم الجيش. ثم انتقلت إلى مرحلة العقوبات الجماعية غير القانونية من أجل إقامة زمام حدودي مع قطاع غزة المحاصر ومع الأرض الفلسطينية المحتلة. وبدون أي سند قانوني أو أي حكم قضائي، تم نسف عشرات المنازل في مدينة رفح بالمواد المتفجرة دون إمهال ساكنيها أي فترة زمنية لإخراج متعلقاتهم وأثاثهم. كما قامت الجرافات التابعة للجيش باقتلاع آلاف أشجار الزيتون والفواكه والموالح التي تعد مصدر دخل وحيد لأصحابها، وذلك دون أي مستند قانوني أو حكم قضائي.
تطورت الانتهاكات بشكل خطير مع انطلاق الحملة العسكرية الموسعة قبل 100 يوم، أي يوم السبت 7 سبتمبر 2013، بهدف تطهير المنطقة الحدودية من الجماعات الإرهابية والمسلحة. وقد تأكد للمركز المصري، بناءً على التوثيق الميداني الذي قام به باحثوه ومحاموه ومتطوعوه، أن العمليات العسكرية انتهجت العنف المفرط والعقوبات الجماعية العشوائية، بقصف المنازل بالطيران الحربي والدبابات، وإحراق بيوت الشعر وعشش الفقراء، وحرق أثاث المنازل، والسيارات غير المتورطة في أي نشاط غير قانوني. ومن ذلك، على سبيل المثال لا الحصر: قصف المنازل في قرى “المهدية” و”المقاطعة” و”الثومة” بمروحيات الأباتشي وقذائف “هيل فاير” أمريكية الصنع في الأيام الأولى من العمليات (7 – 12 سبتمبر). وكذلك قصف الدبابات والمدرعات للمنازل والمسجد في التجمع البدوي “أبو لفيتة” بقرية “الزوارعة” يوم 13 سبتمبر 2013، وذلك دون التحذير بالإخلاء، مما أسفر عن مقتل 4 أطفال وسيدتين داخل منازلهم المأهولة، فضلاً عن إصابات خطيرة عديدة. كما عاينت لجنة التوثيق الميداني التابعة للمركز المصري آثار إحراق أثاث المنازل بعد تفتيشها وعدم وجود مضبوطات أو اعتقال مطلوبين في قرى: “الظهير” و”الجورة” و”المقاطعة” و”المهدية” في الأسبوع الأول والثاني والخامس من العمليات. بالإضافة إلى توثيق الصحافة الإقليمية والعالمية العديد من الانتهاكات الجماعية، ومن بينها الصحافة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة.
وقد تطور خطاب المتحدث العسكري من نفي إحراق المنازل وتدميرها، في بداية العمليات، إلى الإشادة بهذا الانتهاك الخطير مؤخراً، ومحاولة تبريره بالاكتفاء بتصنيف المتضررين بأنهم من “التكفيريين”، دون الاستناد إلى أي حكم قضائي. كما تراجع عن نفي سقوط قتلى من المدنيين بسبب الرصاص العشوائي بعد تقديمه العزاء الرسمي لأحد أبطال حرب الاستنزاف من البدو، الحاج حسن خلف، في مقتل ابنه برصاص الجيش قبل شهر من زفافه المفترض، يوم 28 سبتمبر.
راح ضحية الانتهاكات الموسعة العديد من القتلى من الأطفال والنساء والرجال، فضلاً عن الاختفاء القسري المتكرر، ثم اكتشاف جثث بعضهم ملقاة على الطريق فيما بعد، كما وقع، على سبيل المثال، في منطقة “السبخة” بقرية “الشلاق” التابعة لمدينة “الشيخ زويد”، حيث عثر المارة على جثمان أحد أبناء قبيلة السواركة مع جثة أخرى مجهولة الهوية وعليهما آثار التعذيب، وذلك صبيحة الجمعة 1 نوفمبر، وقد تعددت روايات الشهود بأن إلقاء الجثامين قد تم من مدرعة تابعة للقوات النظامية. وكذلك اعتقال بعض الشباب من العريش ثم اتصال السلطات بذويهم ليتسلموهم جثثاً هامدة، كما كانت الحال مع عبد الله أبو رباع (28 سنة – متزوج وأب لطفل) في مدينة العريش، يوم 4 سبتمبر. فضلاً عن منع سيارات الإسعاف من التحرك في المنطقة الحدودية عقب الساعة الخامسة مساءً، ومد العمل بحالة الطواريء وحظر التجوال في شمال سيناء بدءًا من الساعة الخامسة، خلافاً لسائر الجمهورية، دون إعلان رسمي، وعدم انتهاء العمل بالطواريء وحظر التجوال حتى الآن. كما يتم ترويع الأطفال في المدارس الابتدائية لتحذيرهم من الاقتراب من المنشآت العسكرية أو المحمية بقوات عسكرية والتي قد تكون ملاصقة لمدارسهم، كالتحذير الصادر من إدارة مدرسة “آل ياسر الابتدائية” لتلاميذها بالاعتقال العسكري إذا اقتربوا من سور “استراحة الرئيس” المجاورة للمدرسة.
لم تتوقف سياسات العقاب الجماعي العشوائي عند هذا الحد، بل امتدت لتشمل قطع كافة شبكات الاتصالات في أرجاء محافظة شمال سيناء بصورة شبه يومية منذ بداية العمليات في 7 سبتمبر، حيث يتم تعطيل العمل بالبنوك والبريد وكافة الهيئات والمعاملات المعتمدة على شبكات الهواتف والإنترنت. وهو إجراء تعسفي غير قانوني ليس له قيمة أمنية في ظل اعتماد الجماعات المسلحة على شبكات اتصال دولية مرتبطة بالقمر الصناعي وشبكات من الاتصال اللاسلكي المحلي. كما استمر إغلاق عشرات المحلات في السوق الرئيسية بمدينة “الشيخ زويد” عدة شهور، حتى الآن، وذلك بدعوى تأمين قسم شرطة المدينة، الذي لا يقدم أية خدمة للمواطنين ولا يستخدم إلا كمعسكر لمبيت قوات الشرطة. ولم تسلم الأسواق الأسبوعية التي تعد مصدر الدخل الوحيد لكثير من نساء القرى المعيلات، فقد توقفت الأسواق الأسبوعية عن الانعقاد بعد تكرار حوادث الاعتقال الجماعي العشوائي وتلفيق التهم للباعة والمتسوقين، وهو ما وقع، على سبيل المثال، في سوق قريتي “الجورة” و”البرث”.

حملة انتهاكات منهجية موسعة طالت الشكوك جدواها مع استمرار الجماعات في استهداف قوات الجيش والشرطة، كما في مذبحة الجنود الثالثة (20 نوفمبر). بل صدّرت عملياتها إلى مديرية أمن جنوب سيناء (7 أكتوبر)، وخارج سيناء، باستهداف مبنى المخابرات العسكرية في الإسماعيلية (18 أكتوبر)، واغتيال ضابط مباحث أمن الدولة في مدينة نصر (18 نوفمبر)، بعد فشل محاولة اغتيال وزير الداخلية (4 سبتمبر) في الحي ذاته شرق القاهرة.
وقد زادت الوطأة على سكان سيناء مع عجز الجيش والشرطة عن تأمين المتعاونين معهما وحماية مصادرهما. صار سكان سيناء بين مطرقة قمع السلطة وسندان الجماعات المسلحة، التي أصدرت بياناً إرهابياً يحكمون فيه بالكفر على كل من يتعاون مع قوات الجيش، ويحذرونهم بالقتل الفوري، كما سبق أن قتلوا الشيخ خلف المنيعي وابنه، وحاولوا اغتيال الشيخ عيسى الخرافين.
الآن، وقد مر العمليات العسكرية الموسعة في شمال سيناء أكثر من مائة يوم، فإن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يدعو السلطة الانتقالية إلى ضرورة مراجعة طريقة تعاطيها الميداني مع المشكلات المعقدة في سيناء، ووجوب الوقف الفوري لسياسات العقاب الجماعي والعشوائي الذي طال آلاف الأبرياء. كما يشدد المركز المصري على ضرورة فتح تحقيقات موسعة، وتشكيل لجان حصر وإحصاء لتعويض المتضريين من الأهالي، وتقديم المسؤولين من قادة العمليات إلى المحاكمة، وأهمية تقديم اعتذار رسمي من الدولة لسكان سيناء.
فإذا كان الهدف من العمليات هو مكافحة الإرهاب، فإن النتيجة التي آلت إليها مائة يوم من العمليات الموسعة المتواصلة هي إذكاء بذور الإرهاب وغرس نوازع الانتقام العنيف ضد سلطة الدولة وقواتها النظامية، ولم تتأثر قدرات المجموعات المسلحة التي لا تزال تُسقط الجنود والضباط والأبرياء من المدنيين برصاصها وتفجيراتها. بل الأخطر أنها صدرت عنفها إلى جنوب سيناء، وإلى خارج شبه الجزيرة وفي قلب العاصمة.