صحة | ورقة تحليلة: الحق في الرعاية الصحية.. اﻷزمة وسبل الحل
11 سبتمبر 2013
المركز المصري يرفع دعوى أمام القضاء الإداري لإلزام الدولة بحماية الحق في الصحة
يشغل الحق في الصحة مكانة خاصة بين الحقوق الأساسية للإنسان إذ يفترض به أن يرتبط بشكل مباشر بالحق الأول بين هذه الحقوق وهو الحق في الحياة، ولكن الحق في الصحة إذ يتأثر بكافة العوامل المشكلة لطبيعة حياة الفرد وعلاقته ببيئته وفرص وصوله إلى مواردها يصطدم بنمط الاقتصاد السائد، ويخضع بالتالي للتفاوت الكبير في مستوى المعيشة بين الدول المختلفة وبين الطبقات الاجتماعية في البلد الواحد.
مثل هذه التفاوتات تغيب بشكل واضح عن ذهن واضعي المواثيق والعهود الدولية والتي تقر من خلالها الدول الموقعة على السواء بالتزامها بحماية حقوق مواطنيها في عموميتها، دون التفات إلى أن هذا الالتزام يمارس فعليا في إطار واقع يحكمه توجه اقتصادي يدفع الدول إلى الانسحاب بمعدل متسارع من موقع الفاعل الرئيسي في تشكيل طبيعة حياة مواطنيها. وفي المحصلة نجد أنفسنا في مواجهة جهة تقر بالتزام يحق لنا محاسبتها عليه بينما تتآكل باستمرار قدرتها على الوفاء به، بينما تنتقل هذه القدرة إلى جهات مختلفة مثل مجتمع المال والأعمال في كل دولة والشركات الدولية العابرة للحدود وهي جهات يتنامى تأثيرها على معيشة البشر في العالم بينما لا ترتبط بأي التزامات واضحة تجاه حقوقهم اﻷساسية، ومن ثم ليست في موقف يمكن فيه محاسبتها إذا ما أضرت بهذه الحقوق.
هذه الإشكالية تظهر بوضوح فيما يتعلق بالحق بالصحة، فالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ينص في المادة 12 منه على “تقر الدول الأطراف في هذا العهد بحق كل إنسان في التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية يمكن بلوغه”، وبينما تشكل التنمية وخاصة الصناعية عاملا رئيسيا في تعديل البيئة ومن ثم في التأثير على صحة البشر، فإن الكيانات التي تضطلع بالنصيب اﻷوفر حاليا من إدارة هذه التنمية هي كيانات ذات ملكية خاصة وتخضع فقط لقوانين تفصيلية تختلف من بلد ﻵخر بينما لا تلتزم بشكل واضح بأي التزام عام تجاه صحة البشر الذين يتأثرون بأعمالها. على جانب آخر وعندما يتعلق الأمر بالشق الخاص بالحق في العلاج عند المرض تنص المادة ذاتها من العهد الدولي على التزام الدول باتخاذ تدابير تحقق “تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع في حالة المرض”، وذلك على الرغم من أن قدرة الدول على تأمين مثل هذه التدابير قد تضاءلت بشكل كبير مع تنامي سيطرة القطاع الخاص على خدمات الرعاية الصحية ومستلزماتها وخاصة الدواء والقيود التي تفرضها حقوق الملكية الفكرية على تصنيعه.
لا تخرج مصر بالطبع عن هذا اﻹطار العام لتضاؤل قيمة التزام الدول بحماية حقوق مواطنيها في عالم متغير، وبينما يمكن فهم كثير من مظاهر تغير دور الدولة المصرية تجاه توفير الرعاية الصحية من خلال انفتاح مصر أكثر فأكثر عبر العقود الماضية على الاقتصاد العالمي ومن ثم تأثرها بالاتجاه العام نحو خصخصة الخدمات الصحية وصناعة الدواء بصفة خاصة، فإن طبيعة التحولات التي شهدتها مصر وبصفة خاصة في ظل فترة حكم مبارك التي امتدت لثلاثة عقود، تضيف أبعادا أخرى أدت في معظم الأحيان إلى ازدياد حدة تأثير تغير سياسات الدولة في مجال الرعاية الصحية على المواطن العادي، وتتمثل أهم تلك اﻷبعاد في: ترهل الجهاز الحكومي وارتفاع معدلات الفساد فيه، وتدني المخصص للإنفاق على الصحة كنسبة من إجمالي اﻹنفاق العام، مع انخفاض نسبة هذا اﻹجمالي نفسه مقارنة بإجمالي الدخل القومي، يضاف إلى ذلك تخبط سياسات وزراء الصحة المتتابعين فيما يخص أدوات تقديم الخدمات الصحية مما أدى إلى فوضى كبيرة في أشكال وطبيعة هذه الأدوات وخلق تفاوتا بين الفئات المختلفة من المواطنين في القدرة على الحصول على الخدمة الصحية. وعلى جانب آخر كان تدني اﻷجور الحقيقية لغالبية العاملين سواء في القطاع الحكومي أو القطاعين العام والخاص، وتدني دخول الغالبية العظمى من المواطنين عاملا هاما في افتقادهم للقدرة المالية المطلوبة للاتجاه إلى البديل المتاح للخدمات الصحية الحكومية، وهو ما يعني في المحصلة أن المواطن المصري العادي خلال العقود اﻷخيرة قد تضاءلت فرصة حصوله على الخدمات الصحية بنسبة كبيرة في الوقت الذي تزايدت فيه المخاطر الصحية التي يتعرض لها مع ارتفاع معدلات التلوث البيئي وانحدار مستوى البيئة المبنية التي يعيش فيها النسبة اﻷكبر من المصريين، وهو ما انعكس في صورة ارتفاع ملحوظ في نسبة المصابين بأمراض مزمنة وخطيرة، مثل التهاب الكبد الوبائي والأورام السرطانية بأنواعها.
التحرك لمواجهة الوضع المتردي لحق المواطن المصري في الصحة وبصفة خاصة حقه في الحصول على خدمات صحية ملائمة ينبغي أن يأخذ في الاعتبار كافة العناصر التي سبق الإشارة إليها في العجالة السابقة، وينبغي بصفة خاصة أن نوضح أن التجاء وزراء الصحة في اﻵونة اﻷخيرة إلى اختزال مشكلة صحة المواطن المصري في مشروعات وهمية لمد مظلة التأمين الاجتماعي لفئات لم تكن تظلهم سابقا، هو امتداد لسياسات نظرائهم قبل الثورة، ويصب أغلب الوقت في الاتجاه إلى مزيد من خصخصة الخدمات الصحية من خلال طرح مفاهيم براقة من نوع فصل ممول الخدمة (الدولة) عن مقدمها (القطاع الخاص)، وهو في المحصلة غطاء لتمرير مصالح بعينها وليس أداة حقيقية لمعالجة اﻷزمة نفسها. ومن ثم فإن بناء سياسة جديدة متكاملة للصحة تنبني فلسفتها على حقيقة كونها أحد الحقوق الأساسية للإنسان وعلى أن لها اﻷولوية بين التزامات الدولة المختلفة، هو مدخل ضروري للتعامل مع الوضع الحالي.
قبل أي شيء آخر تندرج الصحة بين قائمة من حقوق المواطن المصري التي لا سبيل لتحقيقها دون سياسة عامة للدولة تتجه إلى تغليب مصالح الغالبية العظمى منهم على المصالح الضيقة لفئات بعينها، العنوان العريض لهذه القائمة هو مطلب العدالة الاجتماعية، وفي إطاره تنتظم أهداف مختلفة منها إيجاد تعاقد اجتماعي يلزم المستثمرين ورجال الأعمال بمسؤولية قانونية تجاه حقوق المواطنين إذا ما أدت أعمالهم إلى انتهاكها، فلا يكفي أن تلزم القوانين أصحاب اﻷعمال باشتراطات بيئية محددة لتجنب مخاطر التنمية الصناعية المتمثلة في التلوث البيئي، فمثل هذه الاشتراطات تتعامل فقط مع اﻵثار المتوقعة مسبقا ولا تأخذ في الاعتبار أية آثار قد تنجم عن تداخل عوامل مختلفة منها الممارسات غير المنضبطة وغيرها.
علاقة العنوان العريض للعدالة الاجتماعية بحل أزمة الحق في الرعاية الصحية قد تبدو بعيدة ﻷول وهلة، ولكنها تتضح إذا ما لاحظنا أن المدخل اﻷساسي لتحسين الخدمات الصحية هو رفع اﻹنفاق العام على الصحة في الموازنة العامة للدولة، ففي حين يطالب إعلان أبوجا الدول الموقعة عليه ومن بينها مصر بتخصيص ما لا يقل عن 15% من إنفاقها العام للصحة فإن متوسط ما تخصصه الموازنة العامة في مصر لم يتخط 4.8% خلال اﻷعوام السابقة يذهب الجانب الأعظم منها إلى سداد الرواتب في حين يتقلص ما ينفق على المستلزمات والمباني والتجهيزات وغيرها بصفة مستمرة، ولا مجال ﻷن نأمل في الوصول إلى النسبة المستهدفة دون رفع موارد الموازنة العامة الذي يتطلب تعديل سياسات مالية واقتصادية مختلفة على رأسها السياسة الضريبية وهي أحد أدوات إعادة توزيع الثروة في المجتمع.
على مستوى سياسات الصحة بصفة خاصة فإن الحاجة ماسة إلى التخلص من الفوضى الحالية في أدوات الدولة لتوفير الخدمات الصحية، فبينما يتصور أن تكون المستشفيات العامة والوحدات الصحية التي تقدم خدماتها لجميع المواطنين هي الأداة الرئيسية، يتوزع اهتمام وزارة الصحة على أنواع مختلفة من المستشفيات ذات نظم مختلفة، كمستشفيات التأمين الصحي والمستشفيات الجامعية، والمستشفيات المتخصصة. واﻷصل أن يكون التنوع في الخدمة عنصرا إضافيا على اﻷصل وليس كيانا مستقلا موازيا له، بمعنى أن يتبع وزارة الصحة نوع واحد من المستشفيات، تقدم خدماتها للجميع في حين يتم تمويل الخدمة من خلال التأمين الصحي لمن تشمله مظلته، كما تتوزع عليها الخدمات المتخصصة وتوفر بعضها الخدمات التعليمية لكليات الطب إلخ. ومع تركيز الاهتمام على المستشفيات العامة والوحدات الصحية كأداة أساسية لتقديم الخدمة العلاجية يمكن العمل على سد الفجوات في تغطية هذه المستشفيات والوحدات لاحتياجات المواطنين المتزايدة إلى خدماتها، بعد فترة طويلة من عدم مواكبة إنشاء المزيد منها للتوسع العمراني والزيادة الكبيرة في عدد السكان. إضافة إلى التردي الشديد في حال وقدرة القائم منها.
على جانب آخر فإن خدمات مثل العلاج على نفقة الدولة هي في الحقيقة وسيلة للالتفاف على مسؤولية الدولة تجاه تقديم العلاج للمواطنين، فاﻷصل في العلاج أن يكون مجانيا أي على نفقة الدولة لجميع المواطنين، في حين يحق لمن يريد منهم أن يلجأ لخدمات القطاع الخاص حسب رغبته. والواقع أن تحديد فئات بعينها من المواطنين المستحقين للعلاج على نفقة الدولة يعد مخالفة للدستور الذي يحظر التمييز بين المواطنين على أي أساس وينص على أن الرعاية الصحية حق تكفله الدولة لجميع مواطنيها، وإضافة إلى ذلك تمثل آليات التحقق من استحقاق المواطنين للعلاج على نفقة الدولة تكلفة إضافية غير مبررة يتم تحميلها على ميزانية الصحة المتدنية في الأساس، كما تفتح الباب لمزيد من مظاهر الفساد.
لا مجال أيضا للحديث عن الرعاية الصحية دون التعرض ﻷزمة الدواء في مصر التي نجمت في معظمها عن خصخصة صناعة الدواء المصرية لصالح شركات دواء عالمية في معظم اﻷحيان استبدلت الدواء المصري بإنتاجها الذي تحتكر ملكيته الفكرية، في حين تقف اتفاقات حماية الملكية الفكرية عقبة في سبيل أن تنتج المصانع المصرية بديلا بأسعار تناسب غالبية المصريين. إن مراجعة سياسة الدولة تجاه صناعة الدواء عنصر رئيسي في أي استراتيجية تسعى من خلالها للوفاء بالتزاماتها تجاه حقوق مواطنيها في الصحة والعلاج، ولابد أن تشمل هذه الاستراتيجية عودة الدولة إلى تمويل التوسع في صناعات الدواء والمستلزمات واﻷجهزة الطبية، وكذا مراجعة الاتفاقات التي وقعت عليها مصر والتي قد تكون ضارة في الحقيقة بمصالح مواطنيها.
بخلاف ذلك ينبغي أن يكون التوسع في إنشاء كليات جديدة للطب والتمريض ورفع مستوى القائم منها من بين أولويات سياسة التعليم العالي في مصر في المرحلة القادمة، فعلى النقيض من دعاوى البعض بأن مصر تخرج عددا من حاملي المؤهلات العليا أكثر مما يستلزمه سوق العمل وخاصة من اﻷطباء، فإن الحقيقة أن نسبة اﻷطباء إلى إجمالي السكان في مصر هي من بين اﻷدنى على مستوى العالم، ويرجع عدم استيعاب سوق العمل لهم إلى الخلل في هذا السوق الذي يشهد نموا ضيقا في القطاع الخاص يقيده نسبة الفئات القادرة على دفع تكلفته إلى إجمالي السكان بينما يكاد يكون نمو الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة وبالتالي طلبها على أطباء جدد صفريا في السنوات اﻷخيرة. وفي هذا اﻹطار ينبغي أيضا العمل على رفع رواتب اﻷطباء وأعضاء هيئات التمريض في المستشفيات العامة والوحدات الصحية.
النقاط السابق ذكرها لا تعدو أن تكون إشارات مختصرة لبعض أهم مداخل التعامل مع مشكلة افتقاد المواطن المصري إلى حقه في الرعاية الصحية، وفي حين تمثل في معظمها مطالب موجهة للدولة بناء على مسؤوليتها التي يلزمها بها الدستور والمواثيق والعهود الدولية فمن السذاجة تصور أن تتطوع الدولة عن طيب خاطر بالاضطلاع بهذه المسؤولية خاصة في ظل ظروف سياسية مازال دفة اﻷمور فيها يديرها طبقة حاكمة تضع مصالحها ومصالح الفئات الاجتماعية المتحالفة معها فوق أي مصلحة للغالبية العظمى من الشعب، ومن ثم فإن تفعيل دور المجتمع المدني وبناء حراك شعبي ضاغط يفرض آليات لمساءلة الحكومة ودفعها إلى تبني سياسات تخدم مصالح المواطنين وتحمي حقوقهم هو السبيل العملي الوحيد لتحقيق هذه المصالح وحماية هذه الحقوق. وينبغي أن يوفر الحراك الشعبي الذي تفجر في هيئة انتفاضتين شعبيتين خلال سنتين ونصف وأسفر عن اﻹطاحة برئيسين، المناخ المناسب لتوجيه الزخم الشعبي إلى التعامل مع الاحتياجات المباشرة والحقوق اﻷساسية.
المركز المصري يرفع دعوى أمام القضاء الإداري لإلزام الدولة بحماية الحق في الصحة