بيانات المركز ديون سياسات اقتصادية

مزيد من الديون، مزيد من التقشف

الديون والتبعية السياسية

في تاريخ مصر الحديث ومنذ حكم الأسرة العلوية لطالما كانت الديون عامة والخارجية منها خاصة هي الهاجس الأكبر للحركة الوطنية المصرية، خاصة وبعد الدور الكبير الذي لعبه تراكم الديون في تسهيل تدخل القوى الاستعمارية في مصر في صور عدة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأبرزها الإدارة الثنائية. ولهذا ترسخت قناعة بأهمية الاستقلال الاقتصادي لمصر. ولربما كان ذلك الدافع الأكبر في الحفاظ على مستوى منخفض من المديونية في عهد الرئيس السابق جمال عبد الناصر، ولكن مع بداية سياسات الانفتاح في عهد الرئيس السادات عادت الديون لتراكمها المتسارع لتتخطى في عهد مبارك الخمسين مليار دولار بحلول عام 1989 قبل أن تخفض للنصف في عام 1991 كمكافأة لمصر على مشاركتها الفعالة في حرب الخليج الأولى. فنذكر بالدور الذي لعبته الديون في أثناء الإرادة الوطنية لصالح الدائنين كتحذير مما يوشك على الحدوث في المستقبل القريب.

ذلك كله يصب في موضوع الساعة ألا وهو القرض “التنموي” القادم من البنك الدولي وشروطه المجحفة، والذي تعمد امتناع عرضه على مجلس النواب بسبب طبيعته المثيرة للجدل وهو الأمر الذي يتنافى مع تصريحات سابقة للحكومة بأنه لا توجد شروط. يأتي القرض في فتره عصيبة على الاقتصاد المصري ففي خضم أزمة انخفاض إحتياطي النقدي الأجنبي المصحوبة بخسارة مصر لجزء ضخم من الدخل السياحي وتخفيض البنك الدولي لمعدل النمو الاقتصادي لمصر من 4.2% لـ3.8% حيث تقف مصر رهينة للدائنين مذكرة إيانا بما سردناه من تاريخ سلب الديون للإرادة الوطنية. وقرض البنك الدولي ليس هو الأول أو الأخير، فمصر قد اقترضت أضعاف المليارات من جهات عديدة خلال عام 2015، لكن يظل قرض البنك الدولي هو الأكثر قلقا بسبب ما يتطلبه من إجراءات مباشرة مفروضة علي الحكومة المصرية خاصة وأن المليار دولار المثار حولها الجدل هي فقط الدفعة الأولي لقرض قدره 3 مليار دولار، مما يعني أن الشروط التي تم الإعلان عنها ليست هي الشروط الوحيدة للقرض، وتأتي شروط البنك الدولي للقرض مجحفة برغم توقعها، فشروط القرض تتماشى تماما مع مبادئ برامج التعديل الهيكلي التي يتبناها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي كشروط عامة للقروض وكأداة أساسية لإخضاع المستدين للسياسات النيوليبرالية والتي تجعل اقتصاد وسيادة مصر تابعة بالأساس للهيئة المانحة مما يفقد الشعب حرية قراراه ومما ينافي نداء العدالة الاجتماعية الذي هتف له الشعب في ثورة يناير.

الفشل في إدارة العجز

تعاني مصر الآن من أزمة حادة في تزايد الديون التي تخطت حاجز التسعين بالمائة من إجمالي الناتج القومي في العام الماضي، حيث فاق الدين المحلي 2 تريليون جنيه مصري، بينما فاق الدين الخارجي 46 مليار دولار بما يساوي حوالي ثلاثمائة وستون مليار جنيه مصري طبقا لأسعار العملة في هذه الفترة. ويعد هذا التزايد المطرد في الاستدانة أكبر الأخطار الاقتصادية التي تواجهها مصر، خاصة في مناخ التباطؤ الاقتصادي العالمي الذي يهدد الاستثمارات الخارجية ويؤثر بالسلب على التعافي شديد الهشاشة للاقتصاد المصري في الفترة الماضية. ومن الجدير بالذكر أن بند خدمة الديون متألفا من سداد الأصول والفوائد قد فاق الخمسمائة مليار جنيه مصري في موازنة العام المالي 2015-2016 بما يشكل 43.7% من إجمالي الإنفاق المالي في هذا العام. فحين نوجه ما يقرب من نصف الإنفاق العام على ملف الديون، يجب مراجعة السياسة المالية للدولة كلها. فبرغم تراجع عجز الموازنة العامة للدولة من 10% من الناتج المحلي في 2014-2015 لـ8.9% في عام 2015-2016 إلا أن هذا التراجع نتيجة نمو الناتج المحلي أولا و أخيرا، ففي نفس الفترة زاد العجز الكلي للموازنة بنسبة 5% و زاد بند الاقتراض [1] من 455 مليار جنيه مصري لما يفوق 509 مليار جنيه و هي زيادة تقدر بأكثر من 11.8%. 

ثمناً للقرض: بيع الحكومة للمواطن

وتعتبر أهم هذه الشروط خفض فاتورة الأجور كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بـ8.5% في وقت يعاني فيه المواطنون من ارتفاع أسعار السلع والذي ستستمر في الازدياد الحاد خاصة بعد تطبيق ضريبة القيمة المضافة والتي تفرض ضريبة موحدة على السلع والخدمات، والتي سيتحملها المواطن العبء النهائي، والذي يشترط فرضها للحصول علي القرض، ومن الجدير بالذكر أن الحكومة لم تقدم أية دراسات عن تأثير ضريبة القيمة المضافة على الأسعار، الوعاء الضريبي، أو الحصيلة الضريبية. تتضمن الشروط كذلك خفض فاتورة دعم الطاقة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي بـ50%، ومضاعفة متوسط تعريفة الكهرباء لجميع الفئات المستهلكة والتي تشمل المصانع والمنشأت والمنازل، وخفض الحصة السوقية لشركات الطاقة القابضة بـ7% لصالح القطاع الخاص. ومن هنا نحذر من أن تقليص الحصة السوقية للحكومة في قطاع أساسي ومدر للدخل كالطاقة، سينتج عنه تقليص دخل الحكومة المتوقع ووضع المزيد من المواطنين تحت رحمة المستثمرين، وزيادة إعتمادها على الاقتراض، وذلك كله مبني على الأسس النيوليبرالية التي تدعو لتقليص دور الحكومة الاقتصادي على أمل أن يقود مستثمري القطاع الخاص النمو الاقتصادي وهو أمل أصلا ضعيف ويزداد ضعفا يوما بيوم مع احتدام الأزمة الاقتصادية العالمية. كل هذه الشروط لها معنى واحد وهو تخلي الحكومة تدريجيا عن دورها في الحماية الاقتصادية لمواطنيها الأكثر إحتياجا وتركهم في العراء ليواجهوا أزمات السوق العالمي. مما يخلق حلقة اقتصادية مفرغة من تقليص الدور الحكومي وزيادة بنود الاستدانة. ونحذر أيضا بأن الاستمرار في سياسات التقشف لن يؤتى ثماره والأولى بالحكومة العمل على تقليص فاتورة الفساد بدلا من تقليص فاتورة دعم المواطنين، وأن تراجع الحكومة عن دورها الاقتصادي الذي سيؤدي حتما لارتفاع الأسعار بلا إصلاح حقيقي في هيكل الأجور عامة والحد الأدنى للأجور خاصة هو قرار واعٍ بالحكم بالجوع على الطبقات الأكثر فقرا.


[1] يغطي بند الإقتراض المصادر المحلية والأجنبية وإصدار الأوراق المالية بخلاف الأسهم من القطاع المالي المصرفي وغير المصرفي وغيره من مصادر التمويل..

قانون ربط الموازنة للسنة المالية 2015-2016