حماية البيئة.. قوانين أتلفتها العقوبات (وفيات مبكرة وتكلفة اقتصادية لا يقابلها غطاء قانوني محكم)

في وقت احتلت القاهرة المركز الثاني ;أكثر مدن العالم تلوثًا في الهواء المحيط، ضمن دراسة أصدرتها منظمة الصحة العالمية في عام 2016، يدور تساؤل حول العقوبات الخاصة بالمخالفات البيئية، والواردة بقانون العقوبات، ومدى جديته في ردع المخالفين.
وفقا لمنظمة الصحة العالمية يفقد كل مواطن مصري عامين حوالي من عمره، بسبب الاعتلال أو الإعاقة الصحية جراء تلوث الهواء، فيما وصلت أعداد الوفيات المبكرة في مصر بسبب تلوث الهواء ٦٧٤٣٤ حالة عام ٢٠١٦.
لا يتوقف الأمر عند ذلك الحد، إذ يترتب على العبء الصحي الناتج عن تلوث الهواء خسائر اقتصادية، جراء الضغط على مرافق الصحة، مثل المستشفيات الصدرية، ومعها تتراجع مؤشرات إنتاجية العمال، أو الطلبة في المدارس.
وفي هذا الصدد يشير تقرير البنك الدولي الصادر عام ٢٠١٩ إلى أن تكلفة المرض والوفيات المبكرة الناجمة عن تلوث الهواء المحيط، وصلت إلى نحو ٤٧ مليار جنيه في القاهرة الكبرى، في ٢٠١٦\ ٢٠١٧، أي ما يعادل ١,٣٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي.
ولكن للغرابة فإن هذا المشهد الخطير الموثق بالأرقام، وحتى قانون تنظيم البيئة رقم 4 الصادر عام 1994، لم يجاورهما أي تحديث على العقوبات الخاصة بالمخالفات البيئية، والواردة بقانون العقوبات، والذي لم يتم المساس به منذ العام 1981، وذلك بالرغم من أن أغلب الاتفاقيات الدولية البيئية قد جاوزت ذلك التاريخ بمراحل.
وبالرغم من أن القانون المصري الخاص بالبيئة يعتبر حديث النشأة بشكل نسبي، إلا أنه اشتمل على تنظيم العديد من المسائل البيئية بما فيها مسائل النفايات الخطرة، إذ صدر القانون متأثرا بنصوص الاتفاقيات الدولية البيئية كاتفاقية لندن لمنع التلوث من السفن الصادرة عام 1973، والاتفاقية الاطارية الخاصة بتغير المناخ الصادرة عام 1994.
ولكن على أرض في الواقع فإن تماسك النصوص القانونية لم يتوازن مع كفة العقوبات، كذلك طول فترة التقاضي، خصوصا بالنسبة للمنشآت الضخمة، والمؤثرة بيئيا.
وفي الواقع أيضا فإن الأصل الحاكم لقوانين العقوبات عموما، يجب أن يكون حماية المجتمع، وبشكل يواكب تطوراته المطردة، ومع ذلك فإن مواد حماية البيئة، ظلت محلك سر، ولم تتوازى مع التطور الإداري، والتشريعي للبلاد، بل وظلت تستمد فلسفتها من تشريعات موغلة في القدم، لاتتناسب مع العلم الحديث، ونظرته لحماية البيئة كأولوية مطلقة.
وبنظرة سريعة على قانون العقوبات نجد أن العديد منها لا يرقى لحجم الجريمة نفسها، فالقانون ملئ بالتسهيلات، والثغرات التي تأتي على حساب البيئة نفسها، كما أن بعض المخالفات لم يتم توضيح العقوبات الموقعة على مرتكبيها، بالرغم من انخفاض المعايير البيئية المصرية للغاية، مقارنة بدول العالم.
المثال الأبرز على ذلك كان ولسنوات بلغت 21 عاما، ظاهرة السحابة السوداء، والتي ظلت تخنق سماء القاهرة تختنق طوال أشهر الخريف، لتزيد العتمة، وقد بدأت تلك الظاهرة منذ خريف عام 1999، والتي يرجع السبب الرئيسي فيها إلى حرق المزارعين لقش الأرز بعد موسم حصاده، بالإضافة إلى عادم السيارات وحرق القمامة والانبعاثات الصناعية.
ومع ذلك أخذت الظاهرة كل هذه السنوات لمعالجتها، ومن فترة لأخرى تظهر بقع الزيت في الشواطئ الساحلية، فضلا عن صرف المصانع لمخلفاتها في نهر النيل، ومع ذلك يظل الفاعل معروفا – مجهولا، لا يمكن محاسبته بسهولة نظرا للعقوبات الهزيلة في مقابل الجريمة.
من ناحية أخرى تبرز خطورة طول مدة التقاضي التي ترافق المخالفات البيئية، كما هو الحال مع قضية تيتان للأسمنت التي استغرق الوصول إلى نتائج نهائية فيها 7 سنوات كاملة.
وكان مجموعة من منظمات المجتمع المدني من بينها المركز المصري، تقدم ببلاغ إلى النيابة العامة في شهر أغسطس 2015، يتهمون فيه مصنع تيتان للأسمنت بالإضرار بصحتهم من جراء تلوث الهواء الذي تسببه انبعاثات المصنع، وقد أثبتت النيابة العامة صحة الشكوى من خلال معاينة محل سكن المشتكين وإجراء الكشف الطبي عليهم من قبل مستشفى الصدر بكوم الشقافة بكرموز.
ولكن لم يتم البت بشكل نهائي في القضية الا بعد سبع سنوات، بحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، حين أصدرت المحكمة حكمها النهائي والبات بتأييد الحكم الصادر ضد رئيس مجلس إدارة الشركة، والتي اقتصرت على الغرامة، في الجنحة المستأنفة رقم 2322 لسنة 2018 الصادرة من محكمة الدخيلة.
وللتدليل على ضعف مواد العقوبات نعود إلى قانون العقوبات والجزاءات الخاص بالبيئة والذي يرد فيه الأمثلة التالية:
تنص المادة 86 على “يعاقب بغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تزيد على ثلاثمائة جنيه كل من خالف حكم المادة (36) من هذا القانون والخاصة بعدم جواز استخدام آلات أو محركات أو مركبات ينتج عنها عادم أو ينبعث منها دخان كثيف أو صوت مزعج يجاوز الحدود”
يعاقب بغرامة لا تقل عن خمسمائة جنيه ولا تزيد على ألف جنيه كل من خالف حكم المادة (39) والتي تنص على ضرورة التزام جميع الجهات، والأفراد عند القيام بأعمال التنقيب، أو الحفر أو البناء أو الهدم أو نقل ما ينتج عنها من مخلفات أو أتربة باتخاذ الاحتياطيات اللازمة للتخزين أو النقل الآمن لها لمنع تطايرها، وللمحكمة أن تقضي بوقف الترخيص لمدة لا تقل عن أسبوع ولا تزيد علي ستة أشهر، وفي حالة العود يجوز لها الحكم بإلغاء الترخيص”
المواد السابقة قليل من كثير من مواد العقوبات التي تجعل من تجاوز النص مسألة ليست بالعسيرة، خاصة بالنسبة لأصحاب المنشآت المخالفة للاشتراطات البيئية، والتي يجب تعديلها بشكل يجعلها أكثر فاعلية، وردعا للمخالفين.
وبالنسبة للمنشآت على سبيل المثال تنص المادة 69 من القانون على: “يحظر على جميع المنشآت بما في ذلك المحال العامة، والمنشآت التجارية، والصناعية، والسياحية والخدمية تصريف أو إلقاء أية مواد أو نفايات أو سوائل غير معالجة من شأنها إحداث تلوث في الشواطئ المصرية أو المياه المتاخمة لها سواء تم ذلك بطرقة إرادية أو غير إرادية مباشرة أو غير مباشرة و يعتبر كل يوم من استمرار التصريف المحظور، مخالفة منفصلة”
أما العقوبة فتتمثل في غرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه، او الحبس لمدة عام
وفي جريمة خطيرة مثل زيادة مستوي النشاط الإشعاعي أو تركيزات المواد المشعة بالهواء عن الحدود المسموح بها والتي تحددها الجهات المختصة طبقا للائحة التنفيذية لهذا القانون، والتي هي أقل من المعايير المعمول بها عالميا بحسب المنظمات العالمية المتخصصة، فإن العقوبة وبحسب المادة 86 من قانون العقوبات فإن الغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه، ولاتزيد عن أربعين ألف جنيه.
في وقائع بقع الزيت المتكررة منذ سنوات التي تصل إلى الشواطئ المصرية، سواء من سفن محلية، أو عبارات إقليمية ينص القانون على:
يعاقب بغرامة لا تقل عن أربعين ألف جنيه ولا تزيد على مائتي ألف جنيه كل من قام بتصريف مياه الصرف الصحي الملوثة أو إلقاء القمامة من السفن، على أن تكون الغرامة لا تقل عن مائة ألف جنيه ولا تزيد على خمسمائة ألف جنيه إذا قامت إحدى السفن المسجلة في جمهورية مصر العربية بتصريف أو إلقاء الزيت أو المزيج الزيتي في البحر.
والملاحظ أن العقوبات على هزالتها لا يتم تطبيقها إلا بالكاد، كما أنها لا تتوافق مع المعايير البيئية العالمية، ويبقى السؤال حول مدى جاهزية الدولة بالإمكانيات الفنية، والبشرية التي يمكنها التنبؤ، وكذلك سرعة التعامل مع أي تلوث بيئي محتمل، وسرعة الوقوف على المتسبب.
وفي الواقع تنعكس خطورة العقوبات غير الرادعة للمخالفات البيئية على إدراك جهات إنفاذ القانون خصوصا غير المدربة أو المؤهلة للعمل في الحقل البيئي، حيث إن مثل هذه المواد تجعلها غير ذات أهمية، أو بالأحرى ليست أولوية، وعليه يقترح:
- تغليظ العقوبات وبما يتناسب مع الضرر البيئي الفادح الذي تتسبب به.
- تأهيل وتدريب العناصر الشرطية على رصد ومتابعة المخالفات البيئية.
- توفير المعدات البيئية اللازمة لرصد أي مخالفات بيئية، وكذلك الكوادر البشرية التي تستطيع استخدامها.
- سرعة ضبط واحضار المخالفين للنظم البيئية كذلك ضرورة تقصير مدة التقاضي بما يتناسب مع تلك المخالفات وتأثيرها على حياة البشر.
- انشاء وحدة استقبال لشكاوي المواطنين ملحقة بأقسام الشرطة تخص المخالفات البيئية تحديدا يقوم عليها مجموعة من الكوادر المتخصصة.