تخصيص أراضي الدولة
نماذج للفساد الإداري والسياسي
إعداد وحدة البحوث
نديم منصور
محمد عادل سليمان
ابريل 2011
ظل ملف تخصيص أراضي الدولة واحد من أهم الملفات الشائكة منذ عام 1998 حيث دارت حول قرارات التخصيص العديد من شبهات الفساد الادراي والسياسي، فقد شهد هذا العام إصدار قانون المزايدات والمناقصات رقم 89 لسنة 1998 والذي نص صراحة على إخضاع جميع الهيئات العامة لأحكامه، كما شهد نفس العام توقيع عقد تخصيص جزء من أراضى توشكي لصالح رجل الأعمال السعودي الوليد بن طلال.
فمن الناحية الإدارية كان يتم تخصيص مساحات شاسعة من الأراضي بإجراءات إدارية معيبة تعصف بقانونية قرارات التخصيص، وكان أبرزها تجاهل قانون المزايدات، وعدم عرض مسودة العقد على مجلس الدولة لإبداء الرأي فيه، ومن الناحية السياسية كانت قرارات التخصيص لا تبتغى الصالح العام، وإنما كانت لحفنة من رجال الأعمال القريبين من دوائر اتخاذ القرار، وقد اتضح فيما بعد ومن خلال الدعاوى القضائية والمستندات التي قدمت فيها أننا لم نكن أمام مجرد انحراف فردى من وزير أو رئيس هيئة، ولكننا أمام منظومة منهجية للفساد تعتدي على أراضى الدولة، وتقتسم المال والسلطة فيما بينها. بداية من القصر الرئاسي، مرورا بالوزراء، انتهاءا برجال الأعمال.
و على خلفية هذه الأحداث شهدت السنوات العشر الأخيرة زيادة كبيرة في حجم الاستثمارات العقارية في سوق الاستثمار المصري، وانحصر النمو الاقتصادي المصري في أمرين هما التجارة القائمة علي الإستيراد، والاستثمارات في قطاع التشيد والبناء، وانشاء المدن الجديدة ذات الطابع الاستثماري، وفي المقابل انحسر البناء الشعبي أو الاقتصادي في المشروعات التي تقوم بها الدولة.
ومع زيادة قرارات التخصيص لصالح لرجال الأعمال التي تتيح لهم وبمبالغ زهيدة تملك مساحات شاسعة من الأراضي إما للاستثمار العقاري الفاخر أو تحت دعاوى الاستثمار الزراعي والتى تبين بعد ذلك أن أغلبها كان لدواعي الاتجار والسمسرة (التسقيع) والبناء العقاري عليها، خاصة في طريق مصر إسكندرية الصحراوي.
فتعالت اتهامات الفساد التي بدأت تصيب بعض رجال السلطة وكان أبرزهم وزير الإسكان الأسبق المهندس محمد ابراهيم سليمان حيث وجهت له اتهامات عديدة بتخصيص أراضي بدون وجه حق لمحاباة عدد من أقاربه و أصدقائه وبعض رجال الاعمال القريبين من دوائر السلطة، وتم التحقيق في هذه الاتهامات أمام جهات إدارية عديدة، ولكن تم حفظ معظمها لعدم كفاية الأدلة، رغم أن مقدموا البلاغات أكدوا على تقديمهم للعديد من الأدلة الكافية إبان حكم مبارك.
بالطبع كانت منظومة الفساد محصنة بالسرية والكتمان فقد كانت عقود تلك الاراضى سرا من أسرار الدولة، ولا يجوز نشر هذه العقود أو الإطلاع عليها، حتى ذهب المهندس / حمدي الدسوقي الفخرانى لوزارة الإسكان وطلب شراء قطعة أرض ليبنى لأبنائه بيتا ولكن طلب منه انتظار القرعة، وهناك سمع شكوى أحد المواطنين الذين ذهبوا للوزارة لنفس الغرض وهو يقول ( ليه اديتوا هشام طلعت مصطفى أرض مدينتي بالأمر المباشر… اشمعنى إحنا )، فذهب إلى محكمة القضاء الادارى وقام بالطعن على عقد بيع الأرض لشركة طلعت مصطفى بالأمر المباشر، وكانت المفاجأة التي لم تتوقعها الشركة أو الوزارة أو الرئاسة أو رجال الأعمال أن تقرير المفوضين أوصى ببطلان العقد، ثم أصدرت محكمة القضاء الادارى بعد ذلك حكمها بالبطلان، وبعدها بدأت الشركة في تقديم بلاغات ضد حمدي الفخرانى بأنه يضر بسمعه الشركة وبالاقتصاد المصري. في نفس الوقت الذي قامت فيه بالطعن على الحكم أمام الإدارية العليا، كما قامت وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية بالطعن أيضا على الحكم أمام الإدارية العليا.
فبدأ المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية جهوده في مساندة حمدي الفخرانى ضد بلاغات النيابة، وسعى بالتنسيق معه لتشكيل هيئة دفاع أمام الإدارية العليا ضمت العديد من المحامين وأعضاء مجلس الشعب منهم الدكتور صلاح صادق، والسفير إبراهيم يسرى، والاستلذ عصام سلطان، والأستاذ وائل حمدي المحامى، والنائب جمال زهران، وأحمد حسام وعلاء عبد التواب وخالد على من محامو المركز المصري والذي تبنى عقد مؤتمرا صحفيا حضره جميع أعضاء فريق الدفاع وأكدوا على تبنيهم القضية، وحضروا الجلسات التي انتهت إلى رفض طعني الشركة والوزارة، وتأييد حكم القضاء الادارى .
وهنا انتقلت عمليات مواجهة فساد تخصيص أراضى الدولة لمرحلة جديدة فقد أصبح بيد القوى الاجتماعية والوطنية حكم قضائي من الإدارية العليا ببطلان بيع الأرض بالأمر المباشر وعدم قانونية تجاهل قانون المزايدات والمناقصات، وبعدها تم رفع عشرات القضايا طعنا على عقود شبيهه منها أرض توشكي للوليد بن طلال، وارض بالم هيلز في القاهرة الجديدة، وأراضى المصرية الكويتية بالعياط، وسهل حشيش بالبحر الأحمر، وأراضى كيلوباترا جروب…….الخ
فقام المركز بعقد مؤتمرا صحفيا لأصحاب الدعاوى الجديدة وأعلن عن دعمه ومساندته لها وتشكلت جبهة دفاع تلقائية لمحاولة استعادة أراضى الدولة ضمت حمدي الفخرانى، وشحاتة محمد شحاته صاحب قضية توشكي، ومصطفى شعبان المحامى صاحب قضية كيلوباترا جروب، والمحامى وائل حمدي السعيد، وأحمد حسام وخالد على من محامو المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
إن ما ارتكب في ملف تخصيص أراضى الدولة لا يمكن اعتباره مخالفات ادارية للقانون بل جرائم يعاقب عليها القانون، فتخصيص الأراضي بهذا الاسلوب يعتبر إهدار للمال العام، وتسهيلا للاستيلاء عليها، وعدوان صارخ على حقوق الأجيال القادمة، وسوف نعرض في هذه الورقة لثلاث نماذج من الفساد الادارى والسياسي على أراضى الدولة:
الحالة الأولى
بالم هيلز نموذجا لزواج المال بالسلطة، وتعارض المصالح
بعد نجاح قضية مدينتي قام حمدي الفخرانى في سبتمبر 2010 برفع دعوى قضائية لبطلان عقد بالم هيلز وتولى المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الدفاع فيها بالاشتراك مع المحامى وائل حمدى، وقد انتهت المرافعات، وأودعت هيئة مفوضي الدولة تقرير بالرأي أوصت فيه ببطلان العقد، والدعوى محجوزة للحكم في 26 ابريل 2011، وهناك مجموعة من المؤشرات التي توضح نموذج الفساد الادارى والسياسي في تحرير هذا العقد:
1- في 23 أغسطس 2006 قام الوزير أحمد المغربي وزير الإسكان بتحرير عقد بيع أرض بمساحة تسعمائه وستة وستون ألف متر مربع أي ( 500 فدان) بالقاهرة الجديدة لصالح شركة بالم هيلز التي مثلها في عقد البيع كمشترى ابن خالته ياسين إبراهيم لطفي منصور.
2- شركة بالم هيلز هي إحدى شركات مجموعة المنصور والمغربي التي كان وزير الإسكان عضوا بمجلس إدارتها قبل توليه الوزارة، وظل مساهما في رأس مالها بعد توليه وزارة الإسكان كما كان قبلها.
3- منذ وصول المغربي لحقيبة الإسكان في 31 ديسمبر 2005 أعلن وقف قرارات التخصيص وعقد القرعة لراغبى الحصول على أراض الدولة لكنه في عقد بالم هيلز وعقود أخرى لرجال الأعمال قام بتوقيع العقود واعتمادها بالأمر المباشر.
4- تم البيع نظير مبلغ 250 جنيه للمتر المربع في الوقت الذي كان يباع فيه المتر بما لا يقل عن 1500 جنيه للمتر.
5- لم تتم المزايدة على ثمن البيع، وإنما تم تحديد الثمن بمعرفة الوزارة.
6- لم يتم عرض العقد على مجلس الدولة لإبداء رأيه فيما ورد فيه من شروط، أو ثمن.
7- أثناء نظر القضية بالمحكمة تمكن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من الحصول على صورة من تقرير لمجلس إدارة شركة بالم هيلز عن العام المالي 2008 ، وجاء بهذا التقرير أن الشركة لديها مخزون أراضى بلغ في نهاية ديسمبر 2008 إلى 48.8 مليون متر مربع بزيادة قدرها 27% عن مخزون الاراضى الذي كان بالشركة عام 2007، وأن القيمة الإجمالية للأصول العقارية للشركة في 9/11/2008 بلغت 33.1 مليار جنيه مصري، وأكدت الشركة في التقرير أنها استحوذت خلال العام 2008 وحده على 11 مليون متر مربع من الاراضى المميزة سواء محليا أو خارجيا وذلك عن طريق الاستحواذ المباشر، أو عن طريق الاستحواذ على نسب ملكية حاكمة في شركات أخرى.
8- بعد نجاح الثورة تمكن المركز من الحصول على محضر اجتماع الجمعية العمومية غير العادية لشركة بالم هيلز في 31/3/2009، وتبين من هذا المحضر أن قائمة المساهمين الرئيسيين تضم كلا من:
-هشام مظهر أحمد وهو(عديل) جمال مبارك
-محمود يحيى على الجمال وهو(صهر) جمال مبارك
-فهمي عصمت عبد المجيد ابن وزير الخارجية السابق
-عمر مصطفى الطنطاوى، نشرت جريدة الفجر أنه الواجهة الاقتصادية لجمال مبارك، وأكدت أنه الوحيد المصرح له بالمبيت في القصر الرئاسي.
9- كما تبين أيضا من هذا التقرير أن علاء مبارك يملك 16512000 مليون سهم قبل 31/3/2009 ارتفعت بعد هذا التاريخ إلى 24768000 مليون سهم، تقدر قيمتها ب 49536000مليون جنيه، واسمه كان مسجل بالمساهمين تحت رقم (7) علاء محمد حسنى السيد، ولم يذكر لقب مبارك حتى لا يتم التعرف عليه.
وبالتالي فنحن لسنا أمام نموذج عرضي للفساد أو نموذج فردى انحرف فيه وزير الإسكان لصالح أقاربه أو لصالح شركة يساهم في رأس مالها، ولكن نحن أمام نموذج منهجي يوضح كيفية توزيع الثروة والسلطة في المجتمع عبر إهدار نصوص القانون والعدوان على المال العام
الحالة الثانية
توشكي نموذجا لعقود الإذعان والعبث بالمال العام
عندما تقوم دولة بتبني مشروع قومي للتنمية كما أعلنت الحكومة المصرية في التسعينات عن تبنيها لمشروع توشكي، فهي تسعى لتحقيق عدد من الأهداف منها:
استصلاح واستزراع مساحات من الاراضى، خلق فرص للأيدي العاملة الوطنية، تحقيق الاكتفاء الذاتي من بعض المحاصيل، وتصدير ما زاد منها للاستفادة بعوائد التصدير من العملات الأجنبية.
وفى إطار تحقيق كل أو بعض هذه الأهداف تسعى لجذب المستثمرين الجادين، وتقنعهم بأهدافها، وتحرر معهم العقود التي تضمن تحقيقها عبر جدول زمني واضح ومحدد، وأن يتاح لها معاقبة المستثمر حال إخلاله ببنود العقد، فماذا حدث في توشكي:
1- في مايو 1997 اعتمد مجلس الوزراء مذكرة وزارة الزراعة بشأن طلب الوليد بن طلال تخصيص مائة ألف فدان من أراضى جنوب الوادي بمنطقة توشكي.
2- في أغسطس 1997 أصدرت الهيئة العامة للاستثمار قرارها رقم 302 بالموافقة على تأسيس شركة المملكة للتنمية الزراعية والتي يملكها الوليد بن طلال.
3- فى سبتمبر 1998 قامت الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية ببيع الأرض لشركة المملكة.
4- عقد البيع لا يشمل مساحه محددة ولكن جعل الحد الأدنى للمساحة التي يملكها الوليد هي 100000 فدان (مائة ألف فدان) بمشروع توشكي مقابل 50 جنيها مصريا لكل فدان.
5- وفى حالة قيام الوليد بتطوير وزراعة أكثر من مائة ألف فدان مستقبلا فيحصل على المساحات الجديدة أيضا بمبلغ 50 جنيها مصريا للفدان.
6- يتمتع الوليد بن طلال بحقوق الملكية المطلقة على الأرض فور سداد ثمن الشراء دون أي شروط أخرى.
7- تلتزم الحكومة بتقديم ضمانات خطية لشركة الوليد تتنازل فيها عن حقوق نزع الملكية أو مصادرة الأرض في المستقبل، وألا تكون الأرض خاضعة لأي أنظمة تخطيط أو إنشاء في المنطقة، كما لن تخضع لأنظمة التقسيم في الحاضر أو المستقبل.
8- لا تخضع الأرض المباعة لأي أعباء حكومية أو أتعاب أو رسوم أو ضرائب من أي نوع كانت سواء بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر رسوم التسجيل ورسوم التوثيق وضريبة الدمغة والضرائب العقارية وضرائب رأس المال المتعلقة بالأرض وملكيتها.(الشروط في البنود من 5-8 واردة بالمادة الثالثة من العقد)
9- مسئولية الدولة عن إمداد الأرض بالمياه، وتشييد فرع من قناة الشيخ زايد ممتد عبر الأرض على نفقة الدولة، وبمعدلات تدفق حسب ما تحدده الشركة(م 4 من العقد).
10- لا يجوز إيقاف المياه أو قطعها في أي وقت أو لأي سبب مهما كان إلا بعد موافقة خطية من الشركة، وتحصل عليها الحكومة قبل شهرين من قطع المياه.(م5 من العقد).
11- جدول تنفيذ تطوير المشروع سيكون بناء على مطلق إرادة الشركة وسيتم إعلان الحكومة بهذا الجدول في الوقت المناسب ( م 7 من العقد).
12- لا تخضع الشركة لضرائب إعادة بيع الممتلكات أو أية رسوم أخرى أو ضرائب ترتبط بتأجير الأرض أو تقسيمها جزئيا أو بيعها.(م 9 من العقد)
13- في حالة الخلاف في تطبيق أو تفسير العقد وان لم تحل بشكل ودي خلال شهر يتم إحالة الخلاف لتحكيم ملزم ونهائي طبقا لقواعد التحكيم الخاصة بالغرفة التجارية الدولية وبواسطة ثلاث محكمين باللغة العربية.( م 13 من العقد).
14- الإعفاء الضريبي لمدة 20 سنة تبدأ من السنة التي تلي إنتاج كل 10 الآف فدان إضافية، وبالتالي كل 10 آلاف فدان ستستفيد من إعفاء ضريبي مدته 20 سنة كاملة تبدأ من تاريخ الاستصلاح.(ملاحق العقد).
15- تدفع الشركة تكلفة الكهرباء بأسعار تكون مساوية لأقل المعدلات المدفوعة من قبل أي من المستخدمين في مصر.(ملاحق العقد)
16- حق الشركة دون قيد في اختيار أنواع المحاصيل وتشكيلاتها، وفى إدخال المدخلات الزراعية والمعدات بما في ذلك الطائرات والتطبيقات الزراعية دون موافقة رسمية مسبقة.(ملاحق العقد).
17- حق الشركة في استيراد أي فصائل أو أنواع نباتات أو بذور أو حيوانات أو أية مدخلات أخرى مطلوبة دون موافقة رسمية مسبقة، ولا يخضع لأي إجراءات تتعلق بالحجر الصحي.(ملاحق العقد).
18- العقد لم يعرض على مجلس الدولة المصري، ولم يخضع لقواعد قانون المزايدات وتم بالأمر المباشر.
هكذا كانت شروط العقد أسعار بخسه، حقوق مطلقة للشركة، إعفاءات وتسهيلات خرافية، وختاما لا يوجد جدول زمني ملزم للشركة لتنفيذ الاستصلاح أو الاستزراع؟؟؟؟؟؟
فلماذا إذن يحصل على كل هذه المساحات ؟ بهذه الأسعار والإعفاءات؟
وبالطبع ترتب على هذا الأمر استصلاح ما يقرب من ألف فدان فقط في 13 عام ولا يمكن لنا سحب الأرض من الوليد لأنه غير ملزم إلا بسداد الثمن فقط.
لقد ظل هذا العقد طي الكتمان حتى بعد خروج يوسف والى من وزارة الزراعة، ذكر وزير الزراعة الأسبق أحمد الليثى أنه طلب نسخه من عقد توشكي أثناء توليه الوزارة للإطلاع عليها، وبالطبع لم يتاح له ذلك.
وبعد نجاح قضية مدينتي قام المحامى شحاتة محمد شحاتة في سبتمبر 2010 برفع القضية للحصول على حكم بطلان العقد، وقام بالترافع فيها ويعاونه المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وانتهينا من المرافعات وأودعت هيئة قضايا الدولة تقريرا بالرأي أوصت فيه بالقضاء ببطلان العقد والدعوى محجوزة للحكم جلسة 26 ابريل 2011.
وأثناء نظر القضية وبعد نجاح ثورة 25 يناير قام النائب العام بالتحقيق في إجراءات تحرير هذا العقد مع كمال الجنزورى رئيس الوزراء آن ذاك، ويوسف والى وزير الزراعة آن ذلك، فتهرب كلا منهما من مسئولية توقيع العقد والموافقة على هذه الشروط، بالرغم انهما مسئولين معاً عن هذه الشروط، ولم يبدى أيا منهما الاعتراضات أثناء وجودهما في السلطة واكتفيا بإلقاء اللائمة أيضا على الرئيس المخلوع مبارك، ولكن بعد خلعه من السلطة.
وهو ما يفرض عددا من التساؤلات:
كيف كانت تحرر هذه العقود ؟
ومن الذي يراجع الشروط ؟
ومن الذي يحدد الأسعار؟
إن أقوال الجنزورى ووالى تكشف عن افتقاد إجراءات تحرير هذه العقود لأي عمليات تقييم أو تقدير أو متابعه، أو حرص على المال العام. وان تمت الإجراءات فكانت تتم بشكل صوري عبر لجان وهمية مهمتها تبرير عمليات البيع وتبرير الشروط المجحفة التي تضمنتها العقود، فإبعاد مجلس الدولة عن مراجعه العقود بالرغم أن قانون مجلس الدولة يلزم الحكومة بذلك، وعدم إتباع نصوص قانون المزايدات ليست سلوكيات عرضية، ولكنها كانت ممارسات عمدية من الرئاسة ومجلس الوزراء والوزارات حتى لا تكون هناك ضوابط تحكم هذه الإجراءات، وبالتالي نصبح أمام بيئة مواتية للفساد تغلب المصالح الشخصية وعلى الصالح العام.
الحالة الثالثة
العقد الجديد لمدينتي نموذجا للإصرار على إهدار المال العام
والعصف بالقانون وبأحكام القضاء
بعد صدور حكم الإدارية العليا ببطلان تحرير عقد مدينتي، ورفض طعني الدولة والشركة، وتأييد حكم القضاء الادارى، جاء بأسباب حكم العليا أنه (أهدر قانون المزايدات والمناقصات …..
وترتب علي هذه المخالفة اهتزاز الثقة في السوق العقاري، إثر علم المستثمرين بظروف وملابسات بيع أرض مشروع ” مدينتي ” ومقابله وشروطه، وداخل الناس الشك في أسلوب وكيفية إخراج المال العام من ذمة الدولة إلى الغير، وتحديدا إلى مستثمر بعينه…..)
فقام رئيس الجمهورية بطمأنة المستثمرين، وطالب رئيس الوزراء ببحث كيفية تنفيذ الحكم القضائي، وقام الأخير بتشكيل لجنة وصفها ب(المحايدة) لتنفيذ الحكم، فانتهت اللجنة إلى إعادة نفس الأرض ( 8 الآف فدان) بما يعادل 33 مليون متر مربع، إلى نفس الشركة (طلعت مصطفى)، مقابل 9979200000 مليار جنيه ( تسعة مليارات وتسعمائة وتسعه وسبعين مليون ومائتى ألف جنيه)، على الرغم أن محامى الشركة أثناء نظر العقد القديم بالمحكمة كان يتباهى بأن العقد القديم تضمن بيع الأرض للشركة مقابل قيامها بتسليم الهيئة 7% من المباني، وأن هذه النسبة تقدر ب 15 مليار جنيه، وهو ما يفيد أن اللجنة المحايدة أعادت الأرض لنفس الشركة بأقل من الثمن السابق.
وبقسمة ال 33 مليون متر، على ثمن البيع الجديد ما يقترب من 10 مليار جنيه، نجد أن متر الأرض عاد للشركة بسعر أقل من 300 جنيه للمتر المربع، على الرغم أن الشركة تبيع أقل متر في الوحدات السكنية ب خمسة آلاف جنيه، وفى الفيلات ب 20 ألف جنية، وفى الوحدات التجارية ب 50 ألف جنيه.
وذلك يفيد أنه لو أرادت الدولة إعادة الأرض لنفس الشركة كان يجب على الأقل أن يعاد تقييم السعر فلو تم إعادة البيع مثلا ب ألف جنيه للمتر كانت الخزانة العامة ستحصل على 33 مليار (1000جنيه × 33 مليار متر= 33مليار جنيه) لصالح من تحرم الخزانة العامة من زيادة في السعر قدرها 23 مليار جنيه .
تم ذلك كله بدعاوى دعم الثقة في الاقتصاد، والحفاظ على حقوق الحاجزين، وتم تجاهل أهمية احترام سيادة القانون وأحكام القضاء، وحماية المال العام، وان الثقة في الاقتصاد تأتى من القضاء على الفساد وليس دعمه.
ولكن إلى أي شيء استندت اللجنة في إعادة الأرض لنفس الشركة:
استندت اللجنة إلى نص المادة 31 مكرر من قانون المزايدات والمناقصات وهى مادة أضيفت للقانون بالتعديل 148 لسنة 2006 وتتيح للجهات الإدارية التعاقد بالأمر المباشر على أراضى الدولة في حالات الضرورة بمساحات محدده في القانون تحديدا دقيقا، وبالرغم أن فريق دفاع قضية مدينتى عقد مؤتمرا صحفيا بمقر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أوضح فيه أن هذه المادة لا تنطبق على حالة مدينتي لان المادة تضع حدود قصوى من الاراضى التي يجوز في حالات الضرورة بيعها بالأمر المباشر لا تتجاوز مائة فدان، وأن عقد مدينتي 8 آلاف فدان، وبالتالي لا تنطبق عليه هذه المادة.
ولكن أصر النظام المصري برئاسة مبارك وعبر رئيس وزرائه، ووزير الإسكان على إعادة الأرض لنفس الشركة، وتم تحرير عقد جديد في 18 نوفمبر 2010 فقام حمدي الفخرانى بالطعن عليه، وأثناء نظر الجلسة تمكن المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية من الحصول على فتوى حديثة صدرت من الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع في 9 فبراير 2011 برقم 54/1/477 تتناول قواعد تطبيق المادة 31 مكرر من قانون المزايدات، وأكدت الفتوى أن البيع بالأمر المباشر في حالة الضرورة يكون في الاراضى الزراعية بحد أقصى عشرة أفدنة وفى الاراضى الصحراوية بحد أقصى مائة فدان.
وهذا وسوف تنظر المحكمة جلسة المرافعة الثالثة يوم 26 ابريل 2011
إن هذا النموذج يوضح أن الإصرار على مخالفة القانون، وحماية الفساد كان ملمحا إداريا وسياسيا واضحا شارك فيه قادة السلطة، ولم يخجل الذين ادعوا سندا قانونيا يناهض الحقيقية من تبرير إعادة الأرض لنفس الشركة بحجج واهية لتأتى فتوى مجلس الدولة لتعصف بسندهم، ومن بعدها سيأتي الحكم القضائي ببطلان العقد الجديد لمدينتي.
وفى نهاية الورقة التي قدمنا فيها ثلاث نماذج مختلفة للفساد الادارى والسياسي في بيع أراضى الدولة، نقدم بعض التوصيات التي نرجو تبنيها لحماية المال العام، وأراضى الدولة:
1-الحق في المعرفة وحرية تداول المعلومات مداخل رئيسية للحفاظ على المال العام وأراضى الدولة، فعدم نشر هذه العقود وتداولها ساعد على وضع شروط مجحفة بالمال العام، ونعتقد أن النص صراحة على نشر أي عقود وملاحقها أو قرارات تقع على المال العام – أو المال المملوك ملكية خاصة للدولة شأن شركات قطاع الأعمال العام – في الجريدة الرسمية أمرا لا غنى عنه سواء كانت بعقود مباشرة أو مزادات ومناقصات أو قرارات تخصيص.
2- أن ينشر مع عقود البيع أو الانتفاع السجلات التجارية للشركات المنتفعه من العقود موضحا بها الشركاء والمساهمين الرئيسيين بها.
3- التأكيد على ضمانه عرض مسودة العقود على مجلس الدولة المصري لإبداء الرأي فيها ضمانا للمال العام ليس فقط لمراقبة كلفة البيع، ولكن كذلك شروط عقد البيع التي تضر بالمال العام مثل عدم وضع جدول زمني يلتزم به المشترى لاستثمار الأرض كما حدث في عقد توشكي.
4- وقف أي عمليات لبيع أراضى الدولة، والإبقاء فقط على عقود حقوق انتفاع لمدد لا تزيد عن خمسون عاما.
5- الحرص على تطبيق كامل نصوص قانون المزايدات في كافة العمليات التي تخص المال العام سواء الإيجار أو الانتفاع أو البيع، وعدم السعي لتغيير نصوصه أو إلغائها.
6- الدعوى لتشكيل لجان قضائية تتولى مراجعة عقود الاراضى التي تم تحريرها خلال العشر سنوات الأخيرة، ومعاينة تلك الاراضى وإعادة تقييمها بما يحافظ على المال العام، والعمل على استرجاعها إن كان لذلك مقتضى، ولها أن تستعين في عملها بذوي الخبرة في هذه المجالات.
7- تشكيل لجان قضائية تتولى وضع إجراءات وطرق تنفيذ أحكام القضاء التي صدرت أو التي ستصدر في المستقبل بشأن بطلان عقود بيع هذه الاراضى.
8- الدعوى لإصدار قانون تعارض المصالح الذي يحظر على أي مسئول له حق التوقيع على عقود المال العام أن يقوم بأي تصرفات إدارية أو تجارية لصالح نفسه أو أحد أقاربه أو أصهاره أو تنظيمه السياسي الذي ينتمي إليه.
إعداد وحدة البحوث
نديم منصور
محمد عادل سليمان
ويمكن الإطلاع على وتحميل وثائق القضايا الثلاث من مستندات أو تقارير أو أحكام من خلال الموقع الالكتروني للمركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية