المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يقدم طعنا بعدم دستورية المادة 48 من قانون القضاء العسكرى باسم/ مصطفى السيد عيسى إسماعيل
السيد المستشار/ رئيس المحكمة الدستورية العليا.
تحية احترام وتقدير ,,,
مقدمه لسيادتكم:
السيد/ مصطفى السيد عيسى إسماعيل.
المقيم61 مساكن الجمهورية2 م1 ـ السلام ـ القاهرة، ومحله المختار المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الكائن 1 شارع سوق التوفيقية ـ الاسعاف ـ القاهرة.
ضـــــــــد
1- السيد/ رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة. بصفته
2- السيد/ رئيس مجلس الوزراء. بصفته
3- السيد/ النائب العام. بصفته
4- السيد/ وزير العدل. بصفته
5- السيد/ وزير الدفاع. بصفته
6- السيد/ مدير هيئة القضاء العسكرى. بصفته
7- السيد/ المدعى العام العسكرى. بصفته
ويعلنوا جميعاً بمقر هيئة قضايا الدولة الكائن بمجمع التحرير ـ القاهرة.
مخاطباً مع/
الإجراءات
أقام الطاعن الدعوى رقم 33151 لسنة 65ق أمام محكمة القضاء الإدارى بالقاهرة وذلك طعناً على قرار إحالة شقيقه للمحاكمة أمام القضاء العسكرى فى القضية رقم 244 لسنة 2011 جنايات عسكرية شرق القاهرة، وطلب فى ختام عريضة دعواه القضاء له بصفة مستعجلة بقبول الدعوى شكلاً وبوقف تنفيذ قرار الإحالة للقضاء العسكرى وفى الموضوع بإلغاء القرار الطعين مع ما يترتب على ذلك من آثار.
وتدوولت الدعوى بالجلسات أمام محكمة القضاء الإدارى بالقاهرة لنظر الشق العاجل من الدعوى، وأبدى كل من الطاعن والمطعون ضدهم دفاعهم ودفوعهم؛ وإذ إرتآى الطاعن من أنه لا مفر أثناء إبداء دفاعه الشفهى والمكتوب وصولاً للقضاء بطلباته أمام محكمة الموضوع من الارتطام ـ وفقاً لخصوصية تلك الدعوى ـ بنص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966، بما تحويه من افتئات على العديد من الحقوق والحريات الدستورية وتحيفها على الشرعية الإجرائية، بنصها على أن “السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها أم لا”. فضلاً عن كونها تمثل عائقاً أمام محكمة الموضوع للقضاء بطلبات المدعي سالفة الإشارة، مما حدا به ـ الطاعن ـ إلى الدفع بعدم دستوريتها بجلسة 27 /7 /2011.
فقررت المحكمة حجز الدعوى للنطق بالحكم بجلسة 10 /9 /2011، وبتلك الجلسة قررت المحكمة إعادة الدعوى للمرافعة بذات الجلسة مع التأجيل لجلسة 29 /11 /2011، وصرحت للمدعي برفع دعواه أمام المحكمة الدستورية العليا طعناً على دستورية المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 خلال أجل ينتهى فى يوم 28 /11 /2011، وذلك لإستنهاض الاختصاص الإستئثارى للمحكمة الدستورية العليا بالرقابة على دستورية القوانين، إعمالاً من محكمة القضاء الإدارى لصحيح أحكام قانون المحكمة الدستورية العليا وفقاً لنص المادة 29 /(ب) التى قررت بأنه ” تتولى المحكمة الرقابة القضائية على دستورية القوانين واللوائح على الوجه التالي:
( أ ) …….. ( ب ) إذا دفع أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة ورأت المحكمة أو الهيئة أن الدفع جدي أجلت نظر الدعوى وحددت لمن أثار الدفع ميعاداً لا يجاوز ثلاثة أشهر لرفع الدعوى بذلك أمام المحكمة الدستورية العليا، فإذا لم ترفع الدعوى في الميعاد اعتبر الدفع كأن لم يكن.
تقديم لازم
بعد قيام الثورة المصرية بإجبارها رئيس الجمهورية على التخلى عن مقاليد السلطة، وصدور الإعلان الدستورى المؤرخ 13 /2 /2011، والذى بمقتضاه تم تولية المجلس الأعلى للقوات المسلحة حكم البلاد، وانتشار عناصر القوات المسلحة وشرطتها العسكرية في المناطق المختلفة من أنحاء البلاد بدعوى مواجهة حالة العصيان الأمنى، ومن ثم حلولها محل هيئة الشرطة المخولة دستورياً كفالة الأمن والطمآنينة للمواطنين نظراً لقيام حالة من حالات الضرورة الملجئة لحلول القوات المسلحة محل هيئة الشرطة التى امتنعت عن آداء دورها الذى رسمه لها الدستور وعملها المحدد وفقاً للقانون فى خروج واضح منها على الشرعية الدستورية وإفصاح جهير عن عدم إحترامها لسيادة القانون .
ولكن لم يكن هناك أى سند من الدستور والقانون أو حتى ثمة مبرر من حالات الضرورة لحلول القضاء العسكرى محل القضاء العادى، ومع الاستمرار الغير طبيعى والتوسع المجافى للمنطق بإحالة ما يقرب من الاثنى عشر ألفاً من المدنيين للقضاء العسكرى (منذ أوائل فبراير حتى آخر أغسطس فقط من هذا العام[1]) اتضح أن ذلك الحلول لم يكن لمواجهة ظروف استثنائية تقدر بقدرها وتنتهى بإنتهاء موجباتها، أى أن هذا الحلول لم يكن للمحافظة على أمن البلاد فحسب، بل أيضاً لترسيخ دعائم الحكم العسكرى على سُدة السلطة واختلاق ذرائع التعلل بمد تلك الظروف الاستثنائية دون مقتضى حقيقى من الواقع وبالمخالفة للدستور والقانون، ومن ثم استمراره فى حجز السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية بناصيته، وتجلى هذا الإستئثار بالسلطات وبصفة خاصة للسلطة القضائية فى القيام بإحالة آلاف المدنيين أمام المحاكم العسكرية، والتى لا تزال مستمرة حتى تاريخ إيداع صحيفة تلك الدعوى بقلم كتاب المحكمة الدستورية العليا.
وعن القضاء العسكرى فقد عرفته العديد من دول العالم بل وأفردت لهذا النوع من أنواع القضاء تشريعاً مستقلاً. وإن قصره البعض على زمن السلم، والبعض الآخر على زمن الحرب، والبعض الأخير على زمنى الحرب والسلم معاً. كما أن البعض منها قصر إختصاصه على الجرائم العسكرية دون الجرائم العادية، ومنها من بسطه إلى الجرائم العادية الواردة فى قانون العقوبات، إلا أن أغلب تلك التشريعات العسكرية تكاد تتفق على عدم إخضاع المدنيون العاديين للقضاء العسكرى أياً كانت الجرائم المرتكبة وأياً كانت الظروف[2].
كما ظهر هذا النوع من القضاء فى مصر بصدور أمر عال فى عهد الخديو توفيق عام 1884 يبين فقط الأشخاص الذى يسرى عليهم القانون العسكرى “قوات الجيش والشرطة” ، وقد تتضمن فى مادته الرابعة بأنه سيصدر فيما بعد أمر بتشكيل المجالس العسكرية وكيفية سيرها، وفى عام 1893 صدرت المجموعة المسماة بقانون الأحكام العسكرية بمعرفة السردار الإنجليزى. إلى أن أُلغيتتلك المجموعة بصدور القانون رقم 25 لسنة 1966 بشأن القضاء العسكرى، وقد أدخل المشرع المصرى بالقانون الأخير فى اختصاص القضاء العسكرى الأفراد المدنيين العاديين حال ارتكابهم أنواعاً معينة من الجرائم سواء لارتكابها فى مكان عسكرى، أو للاعتداء على مصلحة عسكرية، أو بسبب الإحالة من رئيس الجمهورية لجرائم منصوص عليها فى الباب الأول والثانى من الكتاب الثانى لقانون العقوبات، وهى الجنايات والجنح المضرة بأمن الحكومة من جهة الداخل أو من جهة الخارج وذلك فى الظروف العادية، أو كافة الجرائم التى يحيلها رئيس الجمهورية للقضاء العسكرى فى زمن الطوارئ، أو تلك التى تقع ضد العسكريين بسبب تأدية وظائفهم.
وقد رأى جانب من الفقه بشأن هذا القانون إلى أنه يعتبر الأكثر تخلفاً إذا ما قورن بقوانين الدول العربية بالرغم من أن مذكرته الإيضاحية قد أشارت إلى قانون لبنان وسوريا، ذلك أن واضعه لم يكن على بينة بنصوص قانون العقوبات ولم يكن مجازاً فى الحقوق. وقد طرأت عدة تعديلات على هذا القانون أدت إلى التوسع فى اختصاصه على نحو الشذوذ والغرابة[3].
ويظل قانون القضاء العسكرى معيباً فى صياغته، قاصراً عن ضبط معانيه، وربطها بما يكفل اتساقها وتوافق عناصرها. فلا تكتمل لها الوحدة العضوية المرجوة، ولا يتحقق ترتيبها فيما بينها وفق أسس علمية تقيم بنيانها، وتوجهها لضمان الأغراض المقصودة منها. ويحكم هذا القانون نظرة مبدئية قوامها علو النظم العسكرية على النظم المدنية، واستقلالها عنها فى إجراءاتها، بما يخل بنطاق الحقوق الجوهرية التى تكفلها للخاضعين لها[4].
الإطار القانونى والدستورى:
تنص المادة (48) من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 على أن:
“السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها أم لا”
وإذا يتعارض نص تلك المادة مع المواد الآتية من نصوص الإعلان الدستورى[5] الصادر فى 30 /3 /2011:
مادة (1 /1) : جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة.
مادة (3) : السيادة للشعب وحده، وهو مصدر السلطات، ويمارس الشعب هذه السيادة ويحميها، ويصون الوحدة الوطنية.
مادة (7) : المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.
مادة (20) : المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه.
مادة (21/1) : التقاضي حق مصون ومكفول للناس كافة، ولكل مواطن حق الالتجاء إلى قاضيه الطبيعي، وتكفل الدولة تقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا.
مادة (46) : السلطة القضائية مستقلة، وتتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفق القانون.
مادة (50) : يحدد القانون الهيئات القضائية واختصاصاتها، وينظم طريقة تشكيلها، ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ونقلهم.
مادة (51) : ينظم القانون القضاء العسكري ويبين اختصاصاته في حدود المبادئ الدستورية.
موضوع وطبيعة القرار المطعون فيه أمام محكمة القضاء الإدارى والصفة والمصلحة فى الدعوى الدستورية:
قامت النيابة العسكرية بتوجيه عدة اتهامات لشقيق الطاعن وآخرون، وطلبت عقابهم بالمواد 90/3 ، 102 /أ ، 137مكرر أ /2 ، 361 /3 من قانون العقوبات والمواد 1 ، 25 مكرر أ /2 ، 30 من القانون رقم 394 لسنة 1954 بشأن الأسلحة والذخائر، والمواد 3 ، 5 من القانون رقم 162 لسنة 1958 بشأن قانون الطوارئ، كما ورد بأمر إحالتها لهؤلاء المتهمين كما جاء أيضاً به نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966وتعديلاته تقريراً منها لاختصاص القضاء العسكرى بنظر الجرائم موضوع الاتهامات، وشايعتها المحكمة العسكرية العليا بشأن تلك الإتهامات وكذا بشأن الاختصاص، فجاء قضاؤها بالسجن المشدد لمدة ثلاث سنوات فى الدعوى رقم 244 لسنة 2011 جنايات عسكرية شرق القاهرة، وتصدق على الحكم كما هو بالنسبة إلي شقيق الطاعن.
ويتبين من مطالعة تلك الاتهامات ومقارنتها بالمواد التى انتظمها المشرع بالباب الثانى من قانون القضاء العسكرى بالمواد 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 مكرر ، 8 مكرر أ من أن السند الحقيقى من نصوص هذا القانون بشأن إحالة شقيق الطاعن جاءت وفقاً لما تقرره الفقرة الثانية من المادة السادسة بقانون القضاء العسكرى وتخرج عن فلك باقى تلك المواد. إلا أن النيابة العسكرية وجاء من بعدها القضاء العسكرى أقاموا عماد اختصاص هذا القضاء على نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى، التى تخول لهم ـ وفقاً لتفسيرهم وتطبيقهم لها والذى نعارضه ـ غصب الاختصاص المخول لرئيس الجمهورية “رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة وفقاً للظروف الحالية” بإصدار قرار بالإحالة للقضاء العسكرى وفقاً لصحيح نص المادة السادسة، أى أنهم قاموا فعلياً وعملياً بالركون لنص المادة 48 منفردة بإصدار قرار الإحالة الذى خول القانون إصدار مثل هذا القرار من السلطة التنفيذية والذى هو فى حقيقة أمره قرار إدارى.
فقد قالت المحكم العليا[6] عن سلطة إصدار هذا القرار أنه “لا يعدو أن تكون هذه السلطة أداة لتنفيذ حكم الفقرة الثانية من المادة السادسة من قانون الأحكام العسكرية[7]“.
كما استقر القضاء الإدارى وتواتر على أن قرار إحالة المدنيين للقضاء العسكرى هو فى حقيقته قرار إدارى صادر من السلطة التنفيذية ومن ثم حق طلب وقف تنفيذه وإلغائه أمام محاكم القضاء الإدارى.
إذ قضت بشأن هذا القرار بأنه “قرار إدارى يصدر من السلطة التنفيذية بهدف انشاء مركز قانونى معين يتمثل فى محاكمته أمام القضاء العسكرى بدلاً من جهة القضاء المختصة أصلاً بمحاكمته وهو ليس عملاً أو قراراً قضائياً تفتح به اجراءات المحاكمة التى تبدأ بالتحقيق وتنتهى بالتصديق على الحكم مما يمتنع على القضاء الإدارى التصدى له إذ ينحصر أثره فى بيان وتحديد الجهة القضائية التى تتولى المحاكمة الجنائية لتبدأ سلطة التحقيق عملها بالتحقيق.
وتقرير القضاء العسكرى لاختصاصه لا يحجب اختصاص القضاء الإدارى الأصيل بالنظر فى مشروعية القرار المطعون فيه ما دام قراراً إدارياً[8]“
وأيضاً “من حيث إن الجهة الإدارية المدعى عليها دفعت بعدم اختصاص هذه المحكمة ولائياً بنظر الدعوى تأسيساً على ما نصت عليه المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 من أن السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها أم لا، وأن من المقرر أن قاضى الدعوى هو قاضى الدفع ومن ثم يكون القضاء العسكرى وحده هو صاحب الاختصاص الأصيل فى نظر أية طعون توجه إلى قرار الإحالة ـ على أن هذا الدفع مردود بأن إنفراد القضاء العسكرى بتقرير مدى دخول الجرم فى اختصاصه لا ينال من حقيقة أن القرار المطعون فيه قرار ادراى، توافرت له ما هية القرار ومقوماته التى استقر عليها القضاء الإدارى بحسبانه صادر بالاحالة من رئيس السلطة التنفيذية ابتغاء انشاء مركز قانونى معين لمن صدر فى حقهم يتمثل فى محاكمتهم أمام جهة القضاء العسكرى الأمر الذى تمتد إليه رقابة المشروعية التى يسلطها القضاء الإدارى على تلك القرارات عملاً بحكم المادة 172 من الدستور والمادة 10 من قانون مجلس الدولة[9]“. وهو ما يقطع أى مجال للشك فى طبيعة القرار من ناحية كونه قراراً إدارياً، وجواز الطعن فيه أمام قاضى الإلغاء.
ومن ناحية أخرى فإن نص المادة 48 كما أسلفنا الإشارة تم الاستناد إليها بشأن تنفيذ مقتضى نص المادة 6 من ذات القانون دون إعمال لصحيح تلك المادة الأخيرة، من حيث إن قرار رئيس الجمهورية بإحالة الجرائم المنصوص عليها فى هذه المادة ليس مجرد أداة لتنفيذ حكمها. بل هو اسباغ لاختصاص نظر هذه الجرائم على تلك المحاكم. فلا يكون نقل هذا الاختصاص إليها، غير ولاية جديدة مبتدأه يخلعها رئيس الجمهورية ـ بوصفه سلطة تنفيذية ـ عليها، كى تباشرها بنفسها، وتحتجزها لحسابها. ولكن هذا القرار “الإدارى” صدر من غير ذى اختصاص أى أنه قرار إدارى يرقى لمرتبة الإنعدام ولكن حال دون تقرير هذا الإنعدام من محكمة القضاء الإدارى، ومن ثم بطلان قرار إحالة نجل الطاعن إلى القضاء العسكرى هو نص المادة 48 والتى من ظاهرها حجبت القضاء الإدارى عن القيام بدوره الذى وسد إليه من الدستور فى الرقابة على القرارات الإدارية، ومن باطنها استندت إليها سلطة قضائية فى سلب اختصاص للسلطة التنفيذية ناط بها المشرع القيام بها رغم أن هذا الأخير فى الأصل هو مفوض من الدستور.
ومن ثم توافرت لنا الصفة والمصلحة فى الدعوى الدستورية بشأن الطعن فى عدم دستورية نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966.
عدم دستورية المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966
أ ـ مدخل عام: بين دستورية وجود القضاء العسكرى والضوابط الدستورية لتنظيمه وتحديد اختصاصاته.
يوجد فارق أساسى بين دستورية وجود القضاء العسكرى، وتقرير دستورية هذا القضاء من حيث تنظيمه واختصاصه. فالأمر الأول يتعلق بالجانب الشكلى أى يتصل بالبحث فى شرعية وجود القضاء العسكرى فى المجال الدستورى، وبمعنى آخر هل وجود القضاء العسكرى دستورى أم غير دستورى. أما الأمر الثانى فيتعلق بالجانب الموضوعى “المضمون” أى يتصل بالبحث فى مدى مطابقة أو مخالفة التشريعات المنظمة له أو المحددة لاختصاص القضاء العسكرى للدستور.
والقضاء العسكرى يستمد شرعية وجوده الدستورية ـ الآن ـ من الإعلان الدستورى (م /51: ينظم القانون القضاء العسكرى، ويبين اختصاصاته فى حدود المبادئ الدستورية)، ومن قبله دستور 1971 (م /183: ينظم القانون القضاء العسكرى ، ويبين اختصاصاته فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور) ، أما بالنسبة لتنظيمه وإختصاصاته فقد تُركت للسلطة التشريعية منفردة إجراء هذا التنظيم وتحديد تلك الاختصاصات وبما لا يتعارض مع المبادئ الدستورية، والملاحظ هنا أن الدستور الدائم وسار على نهجه الإعلان الدستورى المؤقت فى وضع قيود على المشرع بشأن تنظيم القضاء العسكرى تتمثل فى وجوب التحرز والحيطة عند وضع التشريع المنظم لهذا القضاء من حيث اتساقه وتوافقه مع باقى المبادئ الدستورية الأخرى حين نص على أن يكون تنظيم هذا القضاء “فى حدود المبادئ الدستورية أو الواردة فى الدستور” كما ورد بالدستور الدائم وشايعه فى ذلك الإعلان الدستورى.
فعلى الرغم من إلتزام القانون ـ بوجه عام ـ بهذا القيد ولو لم ينص عليه بهذا الشأن، فإن النص عليه وخاصة فى موضوع القضاء العسكرى له دلالته، فعلاوة على التأكيد على ضرورة الإلتزام بهذا القيد العام، فإنه يفيد أيضاً فى الدلالة على أولوية المبادئ الدستورية الأخرى الواردة فى مواد الدستور والتى تتعلق بتنظيم الجهات القضائية أو حق التقاضى، بحيث لا يجوز للقانون الذى ينظم القضاء العسكرى التعدى عليها، الأمر الذى يؤيد اعتبار القضاء العسكرى قضاء استثنائياً ـ والاستثنائية هنا لا تتعلق بقيد زمنى يفيد التأقيت، وإنما تتعلق بالأفراد والأماكن الخاضعة لهذا القضاء ـ ومن ثم لا يجوز اعتباره قضاء طبيعياً للناس كافة، وبالتالى لا يجوز له أن يسلب السلطات القضائية الطبيعية اختصاصاتها حتى ولو ورد فى القانون الذى ينظمه ما يبيح ذلك، حيث يعد فى هذه الحالة نصاً غير دستورى[10] .
فإذا كان الدستور ناط بالمشرع العادى سلطة تنظيم وتحديد اختصاص القضاء العسكرى، إلا أنه قّيد تلك السلطة بالحدود والمبادئ الأساسية الواردة فى الدستور، دون أن يجيز للمشرع الخروج عليها.
يؤكد ذلك أن الجملة الأولى من النص ـ 183 من الدستور الدائم و51 من الإعلان الدستورى المؤقت ـ كانت كافية للدلالة على سلطة المشرع إزاء تنظيم القضاء العسكرى، ولكن عندما يضيف المشرع الدستورى عبارة ويبين اختصاصاته فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور أو فى حدود المبادئ الدستورية فإن هذه الإضافة لم تأت تزيداً، وإنما أراد المشرع الدستورى أن يقيد المشرع العادى وهو ينظم القضاء العسكرى بألا يضع فى اختصاصه ما شاء من اختصاصات، وأن يكون مقيداً حال ذلك بالمبادئ الدستورية الأخرى الواردة فى الدستور بما لا يجوز معه الخروج عليها.
كما يدل نص الدستور هذا أيضاً على تقرير ثلاثة ضوابط أولها فى تقرير الدستور لشرعية وجود القضاء العسكرى، وذلك من خلال النص عليه فى صلب نصوصه. ثانيها أنه قضاء يتحيز اختصاصه فى إطار القوات المسلحة (أى بالنطاق العسكرى)، بإعتبار أن هذا النص قد ورد فى الفصل السابع من الدستور الدائم “1971” والذى ينظم القوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطنى، ولم يرد فى الفصل الرابع المنظم للسلطة القضائية، وهو بذلك لا يعتبر جزءاً منها. بما يدل على أنه قضاء خاص ينهض بالقضايا العسكرية، التى تقوم على العنصر العسكرى وذات الصلة الوثيقة بأداء الخدمة العسكرية بهدف الصالح العام، وفق معايير تضيق تارةً وتتسع تارة أخرى من منظور الإعتبارات التى تحكمه فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور. كما يدل ثالثها على وجوب أن تصدر التشريعات المنظمة للقضاء العسكرى على ضوء ما تفرضه المبادئ الدستورية، ذات الصلة بالتنظيم القضائى وقواعد المحاكمة وكفالة حق التقاضى وضماناته من أُسس وضوابط، وملتزمة بتلك المبادئ التزاماً للنص الذى أورده الدستور فى هذا الشأن، ونزولاً على مقتضاه وإلا كانت مخالفة للدستور[11].
أى أن هذه المبادئ ـ الواردة فى الدستور ـ تكون قيداً على كل تنظيم تشريعى لهذا القضاء، ولا يجوز بالتالى أن يجرد هذا التنظيم حق الناس كافة فى اللجوء إلى قاضيهم الطبيعى ولا أن يخل بحقهم فى الدفاع ولا فى النفاذ إلى الوسائل القضائية الملائمة للدفاع عن حقوقهم إذا كانوا غير قادرين مالياً على تحمل نفقاتها ولا أن يهدر ضمانة استقلال القضاة وحيدتهم وامتناع عزلهم وعلانية جلساتهم وخضوعهم للقانون فيما يفصلون فيه من القضايا ولا أن يجيز التدخل فى شئون العدالة وجمعيها حقوق كفلها الدستور لكل فرد بما يحول دون الخروج عليها من خلال بسط حدود الدائرة المنطقية التى يعمل القضاء العسكرى فى نطاقها وإلا صار قضاء استثنائياً مخالفاً للدستور.
ومن حيث إن نطاق اختصاص السلطة التشريعية بتقرير القواعد القانونية التى تنظم إدارة القوات المسلحة وضوابط عمل أفرادها، وواجباتهم التى يؤاخذون على الإخلال بها، وأنماط سلوكهم التى يلتزمون بمراعتها، تصوغ السلطة التشريعية ما تراه من النصوص العقابية ملائماً وضرورياً لنهيهم عن إتيان الجرائم التى حددتها، وعقابهم عنها حال ارتكابهم لها.
ويتم ذلك وفق القواعد الموضوعية والإجرائية التى تنضبط بها محاكمتهم عن تلك الجرائم، والتى يندرج تحتها نموذج المحاكم التى تشكلها للفصل فى جرائمهم، وطرق الطعن فى أحكامها، وقواعد التصديق عليها تحويراً أو إمضاء لها.
كل ذلك بقصد تحقيق نظام خاص للعدالة الجنائية يقتصر على أفراد القوات المسلحة من ضباطها وجنودها حيثما كانوا، ومن الملحقين بهم الذين يرتبطون معهم بعلاقة من نوع خاص، ومن جنود وضباط الاحتياط الذين تستدعيهم القوات المسلحة بعد انتهاء خدمتهم، بقصد تطوير تدريبهم. فهؤلاء وهؤلاء يمثلون جوهر النظم العسكرية التى لا توفر للخاضعين لها ـ فى الأعم من الأحوال ـ ضوابط حقيقية للتقاضى. وكثيرا ما تخل بضماناته الرئيسية، وعلى الأخص ما يتعلق باستقلال قضاة هذه المحاكم وحيدتهم، ومن ثم فكان منطقياً أن يستبعد المدنيون من دائرة تلك النظم.
فكلما أفرط المشرع فى تحديد دائرة جرائم القانون العام التى تشملها النظم العسكرية، كان ذلك انحرافاً من المشرع عن حقيقة الأغراض التى ينبغى أن تتوخاها، وتحويراً لهذه النظم العسكرية من طبيعتها الاستثنائية، إلى أصل يهيمن على الجرائم فى كثير من صورها، حتى تلك التى تدخل فى المجال الطبيعى لدائرة القانون العام، وهو ما لا يجوز أو يغتفر[12].
ويؤيد ما سبق ويسانده فى تحليل مضمون تلك المادة والحدود التى وضعتها للمشرع فى تنظيمه للقضاء العسكرى وتحديد اختصاصته، الأعمال التحضيرية للتشريعات المنظمة للقضاء العسكرى التى صدرت استناداً لهذا النص؛ ومنها:
(1) الأعمال التحضيرية للقانون رقم 96 لسنة 1971 بشأن الطعن فى قرارات لجان الضباط بالقوات المسلحة[13]، حيث ورد بها “أن التنظيمات الجديدة فى القوات المسلحة دعت إلى إنشاء لجنة ضباط القوات المسلحة التى تعتبر أعلى سلطة تختص بالنظر فى شئون الضباط وكان من الطبيعى أن يناط بها الفصل فى الطعون فى القرارات المتعلقة بلجان الضباط. ولذلك رئى أن يعقد لهذه اللجنة الاختصاص بالنظر فى هذه الطعون بحيث تباشر هذا الاختصاص بصفة هيئة قضائية، وينضم إلى عضويتها فى هذه الحالة مدير إدارة القضاء العسكرى للقوات المسلحة.
وقد ذهب تقرير اللجنة المشتركة من لجنتى العلاقات الخارجية والشئون التشريعية بمجلس الشعب عن القرار بقانون رقم 96 لسنة 1971، إذ لاحظت اللجنة أنه وإن كانت المادة 86 من الدستور تنص على حظر النص فى القوانين على تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء، فإن القضاء بالنسبة لشئون القوات المسلحة ليس هو القضاء العادى الذى يرد تنظيمه فى الدستور فى الفصل الخاص بالسلطة القضائية، بل هو القضاء العسكرى الذى ترد الإشارة إليه فى الفصل الخاص بالقوات المسلحة. إذ تنص المادة 183 من الدستور على أن ينظم القضاء العسكرى ويبين اختصاصاته فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور، وهو نص مستحدث فى الدستور الجديد إذ لم يكن دستور 1964 يتضمن أى نص بشأن القضاء العسكرى. ولاحظت اللجنة أن القضاء العسكرى وهو أمر تستلزمه طبيعة النظام العسكرى ومقتضياته، قد يكون قضاء جنائياً وهو الذى ينظمه قانون الأحكام العسكرية رقم 25 لسنة 1966، وبمقتضاه تنشأ محاكم عسكرية تختص بالفصل فى الجرائم المنسوبة إلى أفراد القوات المسلحة، وهى مشكلة من ضباط وتصدر أحكاماً قد تصل إلى توقيع عقوبة الإعدام. وقد يكون القضاء العسكرى إدارياً، وهو الذى ينظمه القرار بقانون بشأن الطعن فى قرارات لجان الضباط. وانتهت اللجنة إلى أن لجنة الضباط بالقوات المسلحة تعتبر جهة قضاء عسكرى، فالطعن فى قرارات لجان الضباط أمامها هو طعن أمام جهة قضاء عسكرى. وهو قضاء نص عليه الدستور وأحاله إلى القانون لتنظيمه وتحديد اختصاصه فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور، ول يخرج القرار بقانون الصادر فى هذا الشأن عن مبادئ الدستور. وبذلك يكون القرار بقانون المشار إليه قد جاء مطابقاً لأحكام الدستور، ومن ثم فإن اللجنة المشتركة توصى المجلس إقراره.
(2) الأعمال التحضيرية للقانون رقم 71 لسنة 1975 بشأن تنظيم وتحديد اختصاصات اللجان القضائية لضباط القوات المسلحة[14]، فقد ذُكر بالمذكرة الإيضاحية بأن نص المادة 183 من الدستور قد جاء إيماناً من المشرع الدستورى بأن القضاء العسكرى هو أمر توجبه مقتضيات النظام العسكرى فى القوات المسلحة، وما لهذا النظام من طبيعة خاصة يتعين معها أن يكون التقاضى بالنسبة للشئون المتعلقة به أمام قضاء خاص، هو القضاء العسكرى الذى ناط الدستور بالقانون تنظيمه وبيان اختصاصاته فى حدود المبادئ الواردة به. وبناء على ذلك صدر القرار بقانون رقم 96 لسنة 1971 متناولاً بالتنظيم شطراً من القضاء الإدارى العسكرى، وهو القضاء الخاص بالمنازعات المترتبة على القرارات الإدارية النهائية الصادرة فى شئون ضباط القوات المسلحة، والتى تختص بها لجنة ضباط القوات المسلحة المنعقدة بصفة هيئة قضائية.
أما باقى المنازعات الإدارية الخاصة بالضباط فقد نصت الفقرة الثانية من المادة الأولى للقرار بقانون المشار إليه، على أن تنشأ بكل قوة من القوات المسلحة لجنة قضائية تختص وحدها دون غيرها بالفصل فى المنازعات الإدارية المترتبة عليها ويصدر بتنظيمها وتحديد اختصاصاتها قرار من رئيس الجمهورية.
على أن قسم التشريع بمجلس الدولة قد رأى ضرورة صدور هذا التنظيم بقانون استناداً إلى نص المادة 183 من الدستور، التى توجب أن يكون تنظيم القضاء العسكرى بقانون وبالتالى فلا يجوز أن يصدر جانب من هذا التنظيم بأداة أدنى من القانون. ولذلك فقد أعد المشرع القانون المرافق مشتملاً على تفصيلات تنظيم اللجان القضائية المذكورة، وبيان اختصاص كل منها، ومحدداً لكافة القواعد الموضوعية والإجرائية المنظمة لحق التقاضى أمامها.
(3) ولا يفوتنا فى هذا المقام أيضاً أن نشير إلى ملاحظة اللجنة المشتركة من اللجنة التشريعية ولجنة الأمن القومى والتعبئة القومية فى القانون رقم 72 لسنة 1975بشأن تعديل اختصاص القضاء العسكرى الوارد فى القانون رقم 25 لسنة 1966 لولايته فى نظر الجرائم التى يرتكبها الأحداث[15]، والتى رأت أن هناك توسعة فى مد اختصاص القضاء العسكرى إلى المدنيين فى طائفة كبيرة من جرائم القانون العام، الأمر الذى كان أصلاً موضع نقد حتى بالنسبة لغير الأحداث.
ووجهت اللجنة بمناسبة النظر فى مشروع هذا القانون، إلى وجوب مراجعة قانون الأحكام العسكرية مراجعة شاملة وخاصةً من ناحية اختصاص المحاكم العسكرية بجرائم القانون العام والجرائم التى يرتكبها المدنيون فى بعض الحالات.
وإذا كان من المسلم أن وجود قانون للجرائم العسكرية ومحاكم مختصة بتطبيقها، أمراً تفرضه طبيعة النظام العسكرى وواجبات أفراد القوات المسلحة وسلامتها، وهو ما أقره الدستور الحالى فى المادة 183 منه، إلا أنه يتعين وضع الحدود الفاصلة بين اختصاص كل من القضائين العادى والعسكرى، لكفالة أن تكون محاكمة المتهم دائماً أمام قاضيه الطبيعى.
ب ـ معالجة محكمة النقض (الدائرة الجنائية) لكيفية تطبيق نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى
وقد ذهبت محكمة النقض فى تفسير مجال إعمال نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى إلى أن المشرع خول المحاكم العسكرية سلطة تقرير ما يدخل، وما لا يدخل من جرائم فى اختصاصها؛ وقضت بهذا الشأن أن قرار السلطات القضائية العسكرية بما فيها من النيابة العسكرية بهذا الصدد لا يقبل تعقيباً. ومؤدى ذلك أنه إذا قررت المحاكم العسكرية أن جريمة ما تدخل فى اختصاصها كان قرارها فى هذا الشأن قراراً نهائياً، دون أن تمتلك أى جهة أخرى أن تنازعها هذا الاختصاص أو التعقيب عليها، فهى إذن صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فى مسائل تحديد الاختصاص، إلا أنها عدلت عن هذا الاتجاه فى وقت لاحق:
( أ ) تقرير الاختصاص الاستئثارى للقضاء العسكرى فى ظل نص المادة 48 إذ قضت “بأن قرار جهة القضاء العسكرى فى صدد اختصاصه قول فصل لا يقبل تعقيباً وفقاً للمادة 48 من القانون رقم 25 لسنة 1966 ـ متى رفعت الدعوى الجنائية إلى القضاء العادى عن جريمة سبق أن قرر القضاء العسكرى أنها تدخل فى اختصاصه الولائى تعين على القضاء العادى أن يحكم بعدم اختصاصه بنظرها”. كما قضت بأن: “انتهاء القضاء العسكرى إلى عدم اختصاصه بجريمة ما يوجب على القضاء العادى الفصل فيها ـ مخالفة ذلك خطأ فى القانون”[16].
( ب ) عدول محكمة النقض عن الاختصاص الاستئثارى للقضاء العسكرى حيث جعلت الاختصاص مشتركاً مع القضاء العادى بحسبانه صاحب الولاية العامة فى نظر كافة الجرائم لذا قضت بأن النص فى المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية على أن السلطات القضائية العسكرية وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها لا يفيد صراحة أو ضمناً انفراد القضاء العسكرى وحده بنظر الجرائم المنصوص عليها فى ذلك القانون ـ اختصاص الهيئات القضائية أوكله الدستور للقانون. تقرير القضاء العسكرى اختصاصه بدعوى جنائية ـ يوجب على الهيئات أو المحاكم الاستثنائية أو الخاصة القضاء بعدم نظرها إذا رفعت إليها ـ عدم سريان ذلك على المحاكم العادية[17].
ولم يكن غريباً على محكمة النقض “الدائرة الجنائية” أن تبدأ فى بدايات العدول عن نهجها بشأن الاختصاص الاستئثارى للقضاء العسكرى المترتب على كيفية تطبيق نص المادة (48) فى ظل إطار المفاهيم التى تقوم المحاكم العسكرية عليها أن تذهب إلى “أن ما تقرره المادة 48 من قانون القضاء العسكرى ـ وأياً كان وجه الرأى فيه ـ لا يفيد صراحة أو ضمناً، إنفراد القضاء العسكرى وحده بنظر الجرائم المنصوص عليها فى قانون القضاء العسكرى، ذلك أن اختصاص الهيئات القضائية ـ وعلى ما جرى به نص المادة 167 من الدستور ـ يحدده القانون”.
إلا أنها جانبت الصواب ـ فى تقديرنا ـ بعد ما انتهت إليه فى مدونات هذا الحكم من أن نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى مناقضاً لنص المادة 167 من الدستور، فأخطأت فى قيامها بتفسير المادة 48 تفسيراً لغوياً حرفياً فقط؛ وليس تفسيراً غائياً يستهدى بإرادة المشرع منه. حين قررت “أن السلطات القضائية العسكرية هي وحدها صاحبة القول الفصل عند تنازع الاختصاص، وهو ما يؤكده أن لفظة “وحدها” وردت بعد عبارة “السلطات القضائية العسكرية” ولم ترد بعد لفظة “اختصاصها” في نهاية النص”[18].
وأخيراً وليس آخراً فقد قضت محكمة النقض “بأنه من المقرر أن المحاكم العسكرية المنصوص عليها فى القانون رقم 25 لسنة 1966 بإصدار قانون الأحكام العسكرية ليست إلا محاكم خاصة ذات اختصاص خاص، وأنه وإن ناط بها هذا القانون الاختصاص بنوع معين من الجرائم، ومحاكمة فئة خاصة من المتهمين، إلا أنه لم يؤثرها بهذه المحاكمة وذلك الاختصاص أو يحظرهما على المحاكم العادية، وأنه لا يحول بين المحاكم العادية وبين الاختصاص بالفصل فى الجرائم المنصوص عليها فيه ـ عدا جرائم الأحداث الخاضعين لأحكامه، مانع من القانون ـ ويكون الاختصاص فى شأنها مشتركاً بين القضاء العسكرى والمحاكم العادية، ولا يمنع نظر أيهما فيها من نظر الأخرى، إلا أن تحول دون ذلك قوة الأمر المقضى[19]“.
وليس أدل على صواب العدول من محكمة النقض من أن المحكمة الدستورية العليا قد فصلت فى عدة طلبات تنازع بين القضاء العسكرى والقضاء العادى مثل حكمها فى القضية رقم 11 لسنة 11 قضائية تنازع بجلسة 4 مايو 1991 والتى قضت فيه باختصاص القضاء العادى بنظر الدعوى.
بل إن المحكمة العليا ـ الأسبق وجوداً على إنشاء المحكمة الدستورية العليا ـ قد فصلت فى تنازع الاختصاص ما بين القضاء العسكرى ومحكمة الجنايات فى الدعوى رقم 4 لسنة 3 قضائية عليا “تنازع” جلسة أول ديسمبر 1973، وفيها قضت المحكمة بتعيين محكمة جنايات القاهرة جهة مختصة بنظر الدعوى.
جـ ـ مدخل خاص: مدى دستورية المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966.
ن عن مبادئ الدستورأ
تنص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى على أن:
” السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها أم لا “
أفرد المشرع فى الباب الثانى من قانون القضاء العسكرى اختصاصات هذا القضاء عملاً بأحكام الدستور وإلتزاماً من المشرع بحدود التفويض المقرر بمقتضى المادة 167 من الدستور ـ المادة 50 من الإعلان الدستورى ـ التى عهدت إلى القانون تحديد الهيئات القضائية وبيان إختصاصاتها وطريقة تشكيلها، وعلى ذلك انتظم المشرع اختصاصات هذا القضاء فى المواد (4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 8 مكرر، 8 مكررأ) من قانون القضاء العسكرى، والتى جعلت اختصاص هذا النوع من القضاء خاصة فيما يتعلق بمثول المدنيين أمامه يتسع ليشمل جميع الجرائم متى تحقق فيها أى معيار من المعايير التى حددها هذا القانون من حيث الاختصاص، وبالرغم من أنها معايير واسعة ومطاطة على النحو الذى يجعل من هذا القضاء ذو اختصاص شامل لجميع الجرائم؛ العسكرية منها والمدنية وكذا المختلطة، فإنه يقوض قواعد الاختصاص الأخرى لباقى الجهات القضائية وبصفة خاصة القضاء الجنائى والنيابة العامة، مما يجعل القضاء العسكرى عملياً يعطل أو يوقف القضاء العادى دون استنهاض للمشرع لرسم الحدود الفاصلة بينهما، ودون الأخذ فى الإعتبار ما قضت به محاكمنا العليا من أن القضاء العادى هو الأصل وصاحب الولاية العامة فى نظر جميع الدعاوى الناشئة عن أفعال مكونة لجريمة وفقاً لقانون العقوبات العام أياً كان شخص مرتكبها؛ إلا ما استثنى بنص خاص ووفقاً لضرورة ملجئة يراها المشرع وتخضع ملائمة تقدير المشرع لتلك الضرورة للرقابة الدستورية.
ولا يجوز الإرتكان بشأن تلك الضرورة إلى مجرد خطورة الجريمة لأن ذلك لا يربطها بالنظم العسكرية، والتى تفترض إخلالاً مباشراً بالركائز التى تقوم هذه النظم عليها، وبالمصالح التى تحميها، والتى ـ فى الغالب الأعم ـ لا يندرج تحتها جرائم يحكمها القانون العام.
ولئن جاز أن تنظم قوانين خاصة جانباً من جرائم القانون العام بما يجعلها ملحقة بهذا القانون أو مكملة لأحكامه، فلا تنفصل عن إطاره؛ إلا أن النظم العسكرية لها خصائصها المتفردة التى تخرجها فى كثير من أجزائها عن ضوابط القانون العام، فلا تعمل فى إطار المفاهيم التى يحتضنها هذا القانون. وإنما تكون لهذه النظم ذاتيتها وقواعدها الاستثنائية التى يتعين أن ينحصر تطبيقها فى حدود ضيقة ترتبط عقلاً بأهدافها.
فلا يصح بأى حال من الأحوال، القول بأن النظم العسكرية لها من إجراءاتها فى التحقيق والمحاكمة ما يكفل سرعتها، ويدعم الأغراض المقصودة منها، لأن ذلك مردود بأن للحق فى التقاضى وسائله وضماناته التى لا يجوز الإخلال بها. وكثيراً ما يكون عامل السرعة مدخلاً إلى محاكمة مختصرة فى إجراءاتها، بما بما يناقض حقائق العدل التى لا يجوز التهوين منها. فضلاً عن أن الأصل فى كل قاعدة إجرائية، أن يرتبط تطبيقها بمبرراتها المنطقية، وبملاءمتها لضمان حقوق أفضل للمتهمين جميعهم، وبتكاملها مع غيرها من القواعد الإجرائية والموضوعية، لتقيم فى مجموعها البنيان المقبول للنظم القضائية جميعها، والجنائية منها على الأخص، بحكم اتصالها المباشر بالحرية الشخصية.
فتحرير النظم القضائية القائمة من خلال نقل جرائم القانون العام من الجهة التى تختص أصلاً بنظرها، إلى المحاكم العسكرية التى لها من جهامتها، وأوضاع تشكيل قضاتها، وقسوتها، وإجراءاتها التحكمية، وضماناتها المبتسرة، ما يحيط المحاكمة الجنائية أمامها بمخاطرة كبيرة قلما ينجو المتهمون منها، وتخرج بها عن صميم منهاجها.
كما أن المواطنين الذين ينتزعون من قضاتهم الطبيعيين، يواجهون ميل المحاكم العسكرية إلى التضييق من ضماناتهم القضائية، وعلى الأخص ما تعلق منها بالحق فى اختيار محامين يساندونهم فى كافة مراحل التحقيق، وينبهونهم إلى كيفية تصرفهم أثناء جريانه، ويبصرونهم بحقيقة الأدلة المتوافرة ضدهم وما ينبغى أن يقدم من الأوراق والشهود لدحضها، حتى مع وجود هذه الضمانة فإن المحامين كثيراً ما يردون عنها من خلال الآجال القصيرة التى يؤذن لهم فيها بقراءة أوراق التحقيق[20].
ويرى المستشار الدكتور عوض المُر أنه لا شبهة فى مخالفة نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى للدستور، وذلك لما يأتى:
أولاً: أن حكم المادة 48 المشار إليها وإن تقرر بقانون؛ وكان القانون يعد تعبيراً عن السيادة الشعبية فى كثير من الدول التى تعطيه عصمة يسمو بها على تدخل السلطة القضائية فى قواعده على تدخل السلطة القضائية فى قواعده، سواء بإبطالها أو تعديلها؛ وكان القانون وإن أقرته السلطة التشريعية المنتخبة، إلا أن الدستور يظل قيداً على قواعده جميعها، فلا تستقيم صحتها إلا بشرط تلبيتها للضوابط التى أحاطها الدستور بها؛ وكان البرلمان مقيداً بالدستور؛ ولو أختلط بالسلطة التنفيذية أو خالطها ليأتمر بتوجيهاتها؛ وكان خروج السلطة التشريعية، على حدود ولايتها ـ سواء بالعدوان على ولاية منحها الدستور لسلطة غيرها، أو بالإندماج فيها بما يكفل توحدهما ـ لا يقيمها فوق الدستور، ولا يعطيها الحق فى أن تستقل بتحديد معانى أحكامه؛وكانت النظم العسكرية، ولو صدر بها قانون، إلا أنها هى فى النهاية نظم قانونية مخاطبة بالدستور، وعليها أن تتقيد بأوامره فلا تتحول عنها؛ فقد تعين أن يكون الدستور، حداً نهائياً لكل اختصاص.
ثانياً: أن إطلاق يد السلطة التشريعية من القيود التى تكبحها، مؤداه أن تحدد بنفسها ـ وبوصفها حكماً نهائياً ـ ما يناقض أو يوافق الدستور. وهو ما يتأبى على وجود محكمة عليا تستقل بتشكيلها وضماناتها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتفرض عليهما معاً قيود الدستور، حتى لاتعمل أيتهما فى ما وراء دائرة ولايتها، جوراً على اختصاص مقرر لغيرها.
ثالثاً: وإذ تنص المادة 183 من الدستور ـ المادة 51 من الإعلان الدستورى ـ على أن ينظم القانون القضاء العسكرى، ويبين اختصاصه فى حدود المبادئ الواردة فى الدستور؛ فإن هذه المبادئ تكون قيداً على كل تنظيم تشريعى لهذا القضاء؛ ولا يجوز بالتالى أن يجرد هذا التنظيم، حق الناس كافة فى اللجوء إلى قاضيهم الطبيعى؛ ولا أن يخل بحقهم فى الدفاع؛ ولا فى النفاذ إلى الوسائل القضائية الملائمة للدفاع عن حقوقهم إذا كانوا غير قادرين مالياً على تحمل نفقاتها؛ ولا أن يهدر ضمانة استقلال القضاة وحيدتهم؛ وامتناع عزلهم؛ وعلانية جلساتهم؛ وخضوعهم للقانون فيما يفصلون فيه من القضايا ولا أن يجيز التدخل فى شئون العدالة؛ وجمعيها حقوق كفلها الدستور لكل فرد؛ بما يحول دون الخروج عليها من خلال بسط حدود الدائرة المنطقية التى يعمل القضاء العسكرى فى نطاقها؛ وإلا صار قضاء استثنائياً مخالفاً للدستور.
رابعاً: وإذا كانت المحكمة الدستورية العليا ـ وعلى ما تنص عليه المادة 25 من قانونها ـ هى الهيئة القضائية الوحيدة التى تختص بالفصل فى كل نزاع على الاختصاص بين جهتين قضائيتين مختلفين، وكان عليها أن تستبصر أولاً نطاق الولاية التى حددها المشرع لكل من هاتين الجهتين، وأن تفصل بعدئذ فيما إذا كان المشرع قد حدد تخوم هذه الولاية وفق ضوابطها المنصوص عليها فى الدستور.
فإذا بان لها مجاوزة المشرع لهذه الضوابط، كان عليها أن تبطل النصوص القانونية التى خالفتها من خلال استعمالها لرخصة التصدى المنصوص عليها فى المادة 27 من قانونها على تقدير أن اللجوء لهذه الرخصة، يتصل بنزاع معروض عليها يدخل الفصل فيه فى اختصاصها لتعلقه بتطبيق نص المادة 25 من قانونها.
خامساً: وإذ تنص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى على أن السلطات العسكرية وحدها هى التى تحدد ما يدخل وما لا يدخل فى اختصاصها؛ وكان ما قرره هذا القانون فى ذلك ـ وهو سابق فى وجوده على العمل بقانون المحكمة الدستورية العليا ـ يناقض اختصاص هذه المحكمة المنصوص عليه فى المادة 25 من قانونها، فإن قانون القضاء العسكرى لا يكون معدلاً لقانون لاحق عليه، خاصة إذا كان هذا القانون اللاحق قد نظم بصورة مبتدأة القواعد التى تحكم التنازع على الاختصاص بين جهتين قضائيتين مستقلتين أياً كان موقعهما أو طبيعة التنظيم القانونى الذى يحكمها. فضلاً عما هو مقرر من علو المحكمة الدستورية العليا على كل هيئة قضائية سواها. وهو ما خولها ـ وفقاً لقانونها ـ السلطة التى تحدد بها، ليس فقط الهيئة القضائية التى اختصها المشرع بالفصل فى محل التنازع، وإنما كذلك إضفاء ولاية جديدة على هذه الهيئة إذا كان النزاع قد خرج من يدها بصفة نهائية بإصدارها حكماً قاطعاً فيه بعد تقديم طلب فض التنازع إلى المحكمة الدستورية العليا.
ولا يتصور بالتالى أن يتولى القضاء العسكرى مهمة الفصل فى نزاع على الاختصاص يكون هو طرفاً فيه، وإلا انقلب خصماً وحكماً فى آن واحد.
سادساً: كذلك فإن الهيئتين القضائيتين المتنازعتين على الاختصاص تتكافآن قدراً، ولا تعلو إحداهما على أخراهما. وإنما هما خصمان فى موضوع معين يتعين أن تفصل فيه محكمة تعلوهما معاً، هى المحكمة الدستورية العليا التى يستحيل أن تكون أحكامها ـ وعلى ما جرى به قضاؤها ـ طرفاً فى نزاع على الاختصاص. وفى ذلك ضمان لحيدتها فيما بين الجهتين المتنازعيتن على الاختصاص، لتخص إحداهما بالفصل فى النزاع المعروض عليهما باعتبارها أولى به من غيرها وفق أحكام الدستور والقانون[21].
ومقتضى هذا النص أى المادة 48″أن القانون فوض السلطات العسكرية فى تحديد مدى اختصاصها بنظر بعض الجرائم . نعم لقد حدد هذا القانون فى المواد 5 ، 6 ، 7 مناط اختصاص القضاء العسكرى ولكن تفويض السلطة القضائية العسكرية فى تحديد مدى اختصاصها يمنحها اختصاصاً أوسع مما قررته هذه المواد طالما كانت لها الكلمة النهائية فى تحديد الاختصاص دون معقب عليها من سلطة أخرى محايدة وكيف يتأتى أن يكون القضاء العسكرى طرفاً فى التنازع بين الاختصاص مع غيره من جهات القضاء ثم يكون القضاء العسكرى وحده هو الحكم فى هذا التنازع؟ إن المناط الوحيد لضمان تقييد القضاء العسكرى بالمواد 5 ، 6 ، 7 من قانون الأحكام العسكرية هو وجود جهة قضائية محايدة تختص بتطبيق هذه المواد عند حدوث تنازع بين الاختصاص أما جعل الكلمة النهائية للقضاء العسكرى للفصل فى الاختصاص فهو نوع من التفويض التشريعى للقضاء العسكرى للفصل فى الاختصاص وهو أمر من اختصاص السلطة التشريعية وحدها لتعلقه بالحريات وهو ما لا يجوز لمخالفته للدستور[22]“.
ويلاحظ الأستاذ الدكتور مأمون سلامة أن نص المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية معيب وإذا كان له ما يبرره فى حالة تقرير عدم الاختصاص من القضاء العسكرى باعتباره قضاء خاصاً ولا ينفى اختصاص المحاكم العادية بجرائم القانون العام فإنه جاوز حد التبرير فى الفروض التى يقرر فيها اختصاصه ذلك أن القضاء العادى هو المختص أصلاً بتلك الجرائم وما اختصاص القضاء العسكرى بها إلا من قبيل الاستثناء الذى أملته اعتبارات النظام العسكرى ولذلك كان يتعين تطبيق القواعد الخاصة بتنازع الاختصاص بين المحاكم العادية والمحاكم الاستثنائية والذى تختص به المحكمة الدستورية العليا.
بل إننا نرى أن نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى يعتبر منسوخاً بالمادة 25 من قانون المحكمة الدستورية العليا التى أسندت إلى تلك المحكمة الفصل فى أحوال التنازع الإيجابى أو السلبى بين جهات القضاء المختلفة[23].
وعندنا أن نص المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية هو نص غير دستورى إذ يتعارض مع نص المادة 68 من دستور 1971 الذى ينص على حق كل مواطن فى الإلتجاء إلى قاضيه الطبيعى وهو المبدأ الذى يقتضى أن يكون إنشاء المحاكم وتحديد اختصاصها قبل وقوع الجريمة وبقانون وعدم جواز تفويض إحدى السلطات فى تحديد هذا الاختصاص بمناسبة جريمة معينة وإلا كان فى ذلك مخالفة لمبدأ الشرعية الإجرائية.
وفى حالة تخويل جهة القضاء العسكرى وحدها ـ وهى إحدى الجهتين المتنازعتين حول الاختصاص ـ الفصل فيه يكون ذلك بمثابة تفويض من المشرع لهذه الجهة فى تعيين الجهة المختصة بنظر الدعوى وهو ما لا يملكه المشرع.
وعموماً فإنه بعد صدور القانون رقم 81 لسنة 1969 بإصدار قانون المحكمة العليا الذى جعل الفصل فى التنازع بين اختصاص القضاء العام والهيئات الأخرى ذات الاختصاص القضائى منعقداً للمحكمة العليا وهو المعنى الذى أكده القانون رقم 66 لسنة 1970 بشأن الإجراءات والرسوم أمام المحكمة العليا ثم بصدور قانون المحكمة الدستورية العليا بالقانون رقم 48 لسنة 1979 والذى نص فى مادته الخامسة والعشرين على اختصاص المحكمة الدستورية العليا وحدها بالفصل فى تنازع الاختصاص بين جهة القضاء العادى والهيئات الأخرى ذات الاختصاص القضائى، يمكن القول بأن المادة 48 من قانون الأحكام العسكرية قد نسخت ضمناً بقانون المحكمة العليا ثم قانون المحكمة الدستورية العليا[24].
والأصل ألا يثور تنازع بين القضاء العسكرى والقضاء العادى، إذ أن لكل منهم فلكه الذى يدور فيه، فالأول مجاله الجرائم ذات الطابع العسكرى البحت والتى لا يتصور ارتكابها إلا من عسكرى، والثانى مجاله جرائم القانون العام أياً كان صفة مرتكبها. غير أنه نتيجة عدم تقيد المشرع بهذين الضابطين عند تحديد ولاية أو اختصاص القضاء العسكرى، وركونها إلى التوسعة فى بسط اختصاص هذا القضاء سواء من حيث الجرائم أو الأشخاص. ترتب عليه وجود وإحداث نوع من التنازع ما بين القضاءين العادى والعسكرى، وهو ما استلزم بدوره ضرورة وجود جهة قضائية تتولى الفصل فى هذا التنازع.
فالبحث إذا ثار حول مسألة الاختصاص فإن الأمر يتعلق بمسألة قانونية أولية، وهو ما يجب معه أن يكون البت فيها ليس فقط لجهة قضائية يتوافر لها التكوين القانونى، بل لجهة عليا على غرار الحاصل فى القانون المقارن، وعلى غرار محكمة التنازع فى الاختصاص المنصوص عليها فى المادة 18 من قانون السلطة القضائية رقم 43 لسنة 1965[25]. وتلك الجهة العليا الآن كما قرر المشرع هى المحكمة الدستورية العليا وفقاً لما ورد عليه النص بقانونها المكمل للنص الدستورى المنظم لدور تلك المحكمة.
وبالرغم من المبررات التى استندت إليها نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى إذ قررت أن نص هذه المادة يتمشى مع الحكمة من إفراد تشريع عسكرى، روعيت فيه اعتبارات خاصة سواء بالنسبة للأفراد، أو بالنسبة للجرائم وعقوباتها، الأمر الذى أصبح معه حق السلطات العسكرية فى تقدير ما إذا كانت الجريمة داخلة فى اختصاص التشريع العسكرى أو لا، حقاً واضحاً يتمشى مع الهدف من القانون العسكرى، وباعتبار هذه السلطات أقدر من غيرها على تفهم مقتضيات النظم العسكرية وتصرفات أفراد القوات المسلحة سواء فى الحرب أو السلم. وغنى عن البيان أن هذا الحق قرره القانون للسلطات القضائية العسكرية، وذلك على مستوى كافة مراحل الدعوى، ابتداء من تحقيقها حتى الفصل فيها. فلا أدل على أن ما ورد بالمذكرة الإيضاحية لمشروع القانون رقم 25 لسنة 1966 بشأن القضاء العسكرى بخصوص المادة 48 منه إذ تعتبر تبريراً لاختصاص المحاكم العسكرية بنظر الجرائم العسكرية، وليس فى ذلك تبريراً لإنفرادها بالفصل فيما إذا كانت الجريمة تدخل فى اختصاصها أم لا، فلا علاقة بين تصرفات أفراد القوات المسلحة ومقتضيات النظام العسكرى، وبين انعقاد الاختصاص لجهة قضائية معينة.
إذ أن قواعد الاختصاص قواعد شكلية وليست من المسائل الموضوعية التى يكون لمقتضيات النظام العسكرى شأن فيها أو ملائمات معينة يتفهمها القضاء العسكرى أكثر من القضاء العادى.
ومن حيث إن سريان العمل بنص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى وفقاً لواقع تطبيقه من سلطة مطلقة فى تقرير ما يدخل وما لا يدخل من جرائم سواء جرائم عسكرية أو جرائم القانون العام والجرائم المختلطة بينهما فى اختصاصه أو ولايته القضائية ودون معقب على السلطات القضائية العسكرية من أى جهة أخرى، فى ظل اختصاصه الموسع الذى وسده إليه المشرع، يقتضى أن المحاكم العسكرية هى التى تحدد للمحاكم العادية اختصاصها ولا تملك الأخيرة مجادلتها فى ذلك، وكأنها أضحت المحاكم الأصلية، بينما غدت المحاكم العادية وكأنها محاكم استثنائية.
ومما لا شك فيه أن وجود نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى بمضمونه هذا، يمثل خروجاً من المشرع على حدود المبادئ التى أوردها الدستور فى هذا الصدد، وذلك لما شابه من عوار دستورى جعله مخالفاً للدستور من عدة أوجه:
الوجه الأول أن نص المادة 48 بما من شأنه أن يجعل الكلمة النهائية للقضاء العسكرى للفصل فى الاختصاص. يعد نوعاً من التفويض التشريعى الفرعى للقضاء العسكرى، وذلك من اختصاص المشرع وحده لتعلقه بالحريات. بحسبان أن تحديد الولاية هو أمر من اختصاص السلطة التشريعية أصلاً، إلا أن المشرع عندما جعل القضاء العسكرى ـ هو وحده ـ صاحب الحق فى تحديد ولايته فيما يختص بنظره وما يخرج عن ولايته، فكأنما حوله إلى سلطة تشريعية وهو ما لا يجوز لمخالفته للدستور.
حقيقة أن المشرع قد حدد مناط اختصاص القضاء العسكرى فى المواد 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 مكرر ، 8 مكرر أ من قانون القضاء العسكرى، إلا أن تفويض السلطة القضائية العسكرية يمنحها اختصاصاً أوسع مما قررته هذه المواد، طالما كانت لها الكلمة النهائية فى تحديد الاختصاص دون معقب عليها من سلطة أخرى محايدة.
وهل يتأتى أن يكون القضاء العسكرى طرفاً فى تنازع الاختصاص مع غيره من جهات القضاء، ثم يكون هذا القضاء هو وحده الحكم فى هذا التنازع؟ أليس ذلك من شأنه أن يجعله خصماً وحكماً فى آن واحد؟ إن المناط الوحيد لضمان تقييد السلطات القضائية العسكرية بالمواد المنظمة للاختصاص والمحددة لها فى المواد السالف ذكرها، يتمثل فى وجود جهة قضائية محايدة تختص بتطبيق هذه المواد عند حدوث التنازع فى الاختصاص.
الوجه الثانى أن هذا النص لا يمكن تبريره سواء فى ضوء الغاية من القانون والقضاء العسكرى أو فى ضوء التنظيم القضائى العام على مستوى الدولة. فطبيعة القانون والقضاء العسكرى الغائية تفترض ألا تجرم إلا الأفعال التى تشكل إخلالاً بالضبط والربط ومقتضيات النظام العسكرى، وهى وحدها التى يجب أن يختص بها القضاء العسكرى بحكم العلاقة المتبادلة بين ضوابط القانون العسكرى وضوابط الولاية القضائية للمحاكم العسكرية. ومن ثم تضحى النصوص التى تخول السلطات القضائية العسكرية حق تقرير اختصاصها بالجرم عديمة الجدوى، لأن التنازع لا يمكن أن يثور بصدد هذه الوقائع، باعتبار أن القضاء الجنائى العام غير مختص بها أصلاً.
كما أن التنظيم القضائى على مستوى الدولة ككل لا يتصور تحديد اختصاص هيئاته إلا بقانون، أو بناء على حكم محكمة عليا مختصة بالفصل فى التنازع بين جهتين قضائيتين عند حدوثه. ولا شك فى أن تخويل ذلك الحق للسلطات القضائية العسكرية يعنى أنها أصبحت فى وضع مساوٍ للسلطة التشريعية التى أصدرت القانون المحدد لاختصاص المحاكم، أو فى وضع مساوٍ أو موازٍ للمحكمة التى تتولى الفصل فى تنازع الاختصاص. وفى الحالتين تبدو لنا حقيقة أساسية تتمثل فى أن السلطات القضائية العسكرية تكون ـ فى مدارج التنظيم القضائى ـ فى وضع أعلى من السلطة القضائية العادية، خاصة إذا قضت بعدم اختصاصها بنظر قضية معينة. ففى هذه الحالة يلتزم القضاء العادى بالفصل فيها، ويغدو فى ضوء ذلك تابعاً للقضاء العسكرى وفاقداً لاستقلاله، لأنه لا يستمد اختصاصه من القانون، بل من قرارات السلطات القضائية العسكرية. وإذا كان صحيحاً أن القضاء العادى هو صاحب الولاية العامة فى نظر كافة الجرائم، ولا يجوز له التخلى عن نظرها، إلا أن هذه الولاية تتأتى من نصوص القانون مباشرة، وليس من خلال قرارات السلطات القضائية العسكرية.
الوجه الثالث أن مسألة تقرير السلطات القضائية العسكرية اختصاصها من عدمه لم تعد ذات جدوى بعد صدور قانون المحكمة الدستورية العليا رقم 48 لسنة 1979. وقد نص فى المادة 25 منه على أن “تختص المحكمة الدستورية العليا دون غيرها بما يأتى أولاً….. ثانياً الفصل فى تنازع الاختصاص بتعيين الجهة المختصة من بين جهات القضاء أو الهيئات ذات الاختصاص القضائى، وذلك إذا رفعت الدعوى عن موضوع واحد أمام جهتين منها ولم تتخل إحداهما عن نظرها أو تخلت كلتاهما”. وهو قانون لاحق على صدور قانون القضاء العسكرى، ومن ثم يعتبر نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى منسوخاً بمقتضى نص المادة 25 من قانون المحكمة المشار إليه أو إذا ثار خلاف حول نسخ تلك المادة بشكل صريح ومتوافق مع قواعد نسخ التشريع فهى على الأقل تشكل خصماً من اختصاص أصيل وسد للمحكمة الدستورية العليا بموجب الدستور والقانون.
وقد أضحت بموجبه المحكمة الدستورية العليا الجهة القضائية الوحيدة المختصة بكل نزاع على الاختصاص بين جهتين قضائيتين، بحسبان أنها تحدد أولاً نطاق الولاية التى رسمها المشرع لكل من هاتين الجهتين، ثم تفصل فيما إذا كان المشرع قد حددها وفق الضوابط المنصوص عليها فى الدستور. فإذا ما تبين لها مجاوزة المشرع لهذه الضوابط تعين عليها أن تبطل النصوص القانونية التى خالفتها من خلال استعمالها لرخصة التصدى المنصوص عليها فى المادة 27 من قانون المحكمة الدستورية العليا، شريطة أن يكون تقدير اللجوء إلى هذه الرخصة يتصل بنزاع معروض عليها، يدخل الفصل فيه فى اختصاصها لتعلقه بتطبيق المادة 25 من قانونها.
ولئن كان الدستور قد فوض المشرع فى أن يحدد للنظم العسكرية ملامحها التى يندرج تحتها نطلق سريانها، وصلتها بالخاضعين لها، وحقوقهم قبلها، وأنماط الجرائم التى تواجهها بما يحيط بأركانها وبالجزاء عليها، وكان ما يتوخاه المشرع من هذا التنظيم، هو أن تكتمل عناصره جميعها، إلا أن القواعد التى يقوم عليها، والقيم الأيدلوجية التى يصدر عنها، لا يجوز أن تخل بالحرية الشخصية فى غير ضرورة، ولا بحقائق العدل فى متطلباتها الآمرة.
وأخصها أن المدنيين يخرجون أصلاً عن النظم العسكرية، فلا تشملهم مفرداتها، ولا الأغراض التى تستهدفها، إذ هم غرباء عنها، فلا تجوز ملاحقتهم بها، أو إخضاعهم لها.
وإن كان لا يجوز تنظيم القضاء بمعرفة السلطة التنفيذية أى بقرار بقانون مثلاً وأياً كانت دواعيه، فإنه بالقياس على ذلك أيضاً لا يجوز تنظيم القضاء بمعرفة السلطة القضائية، لأن فى ذلك خروجاً صريحاً على نصوص الدستور، وافتئاتاً على اختصاص السلطة التشريعية ومبدأ الفصل بين السلطات، فضلاً عن أن المشرع الدستورى وإن قام بتفويض السلطة التشريعية فى تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وتنظيم طريقة تشكيلها فلا يجوز للسلطة التشريعية من ناحية أولى الإفراط فى تحديد موجبات هذا التفويض حتى لا تتعدى على الحقوق والحريات الأخرى المقررة دستورياً ومن ناحية ثانية لا يمكن لها التفريط فى هذا الاختصاص الذى حجزه الدستور لها واستئثرها به بتفويض ثانٍ لأى سلطة أخرى غيرها لأن فى ذلك إنحراف واضح عن آداء دورها المحدد دستورياً وخروج عن مقتضيات التفويض الدستورى، ومن حيث إن تقدير المشرع لضوابط الولاية التى يعطى على ضوئها لكل جهة قضائية نصيبها من القضايا التى يخصها بها، ويكلفها الفصل فيها غير تقدير أى سلطة أخرى لتحوير قواعد هذه الولاية بما يعدل من نطاقها أو يخرجها عن طبيعتها. كما أن القاعدة العامة أنه لا تفويض فى التفويض، مع الأخذ فى الاعتبار أن التفويض استثناء فى الأصل ـ بشأن تحديد اختصاصات الهيئات القضائية ـ من الدستور للسلطة التشريعية ومن ثم امتنع عليها التوسع فى تفسير هذا الاستثناء أو القياس عليه.
فإذا استقام جميع ما تقدم صحيحاً فى الأذهان، حق لنا طلب القضاء بعدم دستورية نص المادة (48) من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 كطلب أصلى لنا بخصوص تلك الدعوى.
إلا أن هناك وجهة أُخرى يمكن للمحكمة الدستورية العليا أن تولى وجهها إليها إذا ارتآت أن هناك ما يمنع أو يحول دون إبطال هذا النص “كاملاً” بالقضاء لنا بعدم دستوريته، ألا وهو إعمال رقابتها فى الإغفال التشريعى “القضاء بعدم الدستورية الشرطى” كطلب إحتياطى لنا فى هذه الدعوى، حيث يصدر لنا حكم بعدم الدستورية كاشفاً عن عيب ليس فيما نص عليه المشرع، وإنما فيما أغفل النص عليه.
أهمية هذا النوع من القضاء وخطورته: “الرقابة الدستورية على إغفال المشرع”
أولاً: أن كل مخالفة للدستور، سواء تعمدها المشرع أم انزلق إليها بغير قصد، يتعين قمعها.
ثانياً: أن الدستور يكفل لكل حق أو حرية نص عليها، الحماية من جوانبها العملية، وليس من معطياتها النظرية. وتتمثل هذه الحماية فى الضمانة التى يكفلها الدستور لحقوق المواطنين وحرياتهم، والتى يعتبر إنفاذها شرطاً للانتفاع بها فى الصورة التى تصورها الدستور نطاقاً فاعلاً لها.
وهذه الضمانة ذاتها هى التى يفترض أن يستهدفها المشرع، وأن يعمل على تحقيق وسائلها من خلال النصوص القانونية التى ينظم بها هذه الحقوق وتلك الحريات.
وشرط ذلك بطبيعة الحال أن يكون تنظيمها كافلاً تنفسها فى مجالاتها الحيوية، وأن يحيط بكل أجزائها التى لها شأن فى ضمان قيمتها العملية.
فإذا نظمها المشرع تنظيماً قاصراً، وذلك بأن أغفل أو أهمل جانباً من النصوص القانونية التى لا يكتمل هذا التنظين إلا بها، فكان ذلك إخلالاً بضمانتها، التى هيأها الدستور لها. وفى ذلك مخالفة للدستور[26].
الأساس القانونى للقضاء بعدم دستورية الإغفال:
إذا أبصرت المحكمة نصاً يطابق الدستور فى عمومه، إلا أن بعض أحوال تطبيقه تصادف خروجاً على أحكامه، وكان مصدر هذا الخروج أمر أغفل المشرع النص عليه فهى بالخيار بين أمر من اثنين، إما أن تقضى بعدم دستورية النص التشريعى برمته، فتتيح بذلك المجال للمشرع كى يتدخل بتشريع آخر يتطابق مع الدستور، وإما أن تقيد تطبيقه بقيود تضمن توافقه مع أحكامه. وهى إن رجحت الحل الأخير تكون قد كشفت عن عدم دستورية النص المقضى فيه جزئياً، وأن هذا العيب الدستورى يمكن تصحيحه بتعليق تطبيق النص التشريعى على شرط يكفل دستوريته، وهنا تقضى المحكمة بعدم دستورية النص لعدم تضمينه هذه الشروط التى استوجبها الدستور لتصحيح هذا العيب الدستورى، أو بعبارة أخرى فإن دستورية النص المطعون فيه تتحدد بإتباع القيود المبينة بموجب هذا الحكم. فلا يتحلل من قضائها بعدم الدستورية إلا بإعمال هذا القيد[27].
وذلك الطلب الإحتياطى ـ بتفعيل قضاء عدم الدستورية الشرطى ـ لأن نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى لا تجيز بأى حال من الأحوال انتزاعها من السياق العام لباقى نصوص قانون القضاء العسكرى، والاستناد إليها وحدها لتقرير اختصاص القضاء العسكرى ـ كما هو الحال بشأن تلك الدعوى ـ من عدمه عن طريق النظر إليها بمعزل عن باقى النصوص التى انتظمها المشرع بذات التشريع ونظم بها اختصاصات القضاء العسكرى والتى تقع بالباب الثانى كما أشرنا قبل ذلك، وقد أشارت المذكرة الإيضاحية لمشروع قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 بشأن المادة (48) أنها “نصت على مبدأ هام يتمشى مع الحكمة من إفراد تشريع عسكرى روعيت فيه اعتبارات خاصة سواء بالنسبة للأفراد أو بالنسبة للجرائم وعقوباتها، الأمر الذى أصبح معه حق السلطات العسكرية فى تقدير ما إذا كانت الجريمة داخلة فى اختصاص التشريع العسكرى أو لا، حقاً واضحاً يتمشى مع الهدف من القانون العسكرى، وباعتبار هذه السلطات أقدر من غيرها على تفهم مقتضيات النظم العسكرية وتصرفات أفراد القوات المسلحة سواء فى الحرب أو السلم”.
وعلى ذلك فإنه استجلاء لإرادة المشرع من وضع نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى والغاية التشريعية منها أى المصلحة التى وضع النص لحمايتها، على هدى ما ورد بالمذكرة الإيضاحية للقانون التى تفصح عن مجال نطاق إعمال تلك المادة والغاية من وضعها وهى قدرة القضاء العسكرى دون غيره على معرفة مقتضيات النظم العسكرية وهو الأجدر على محاسبة أفراد القوات المسلحة، أى أن المشرع أفصح عن غايته من تلك المادة، وهى إستئثار السلطات القضائية العسكرية بتحديد اختصاصها من عدمه وذلك فيما يتعلق باختصاصها من حيث الأشخاص العسكريين ومن فى حكمهم و اختصاصها أيضاً من حيث الجرائم العسكرية كالجرائم التى تقع فى أماكن عسكرية أو على أشياء ومتعلقات المصالح العسكرية أو على جرائم الإعتداء على أعمال الوظيفة العسكرية، وهذا التفسير يتماشى أولاً مع التفسير الغائى للنص وثانياً مع مبدأ وحدة نصوص القانون وتكاملها واتصال أحاكمها، فيما يتعلق بالمادة 48 من القانون مع المواد الآخرى من ذات القانون والواردة بالباب الثانى منه التى انتظمت اختصاصات القضاء العسكرى، لأن هذا ما يوجبه التفسير السديد للنصوص القانونية والتى من المفترض أنها تتكامل ولا تتنافر وتتعاضد ولا تتواهن وتتقارب ولا تتباعد حتى وإن اختلفت مواطن ورودها، إذ يجب النظر إلى كل منها لا على التفرد فى حكمها بل على أساس تكاملها مع حكم غيرها بما يتطابق حقاً مع مراد مصدرها.
وكان ما سبق وأن انتهينا إليه بشأن التفسير الغائى ـ غاية المشرع ـ لنص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى، ما هو إلا هدياً بما تلجأ إليه المحكمة الدستورية العليا حين تتصدى لتفسير النصوص القانونية، قتقوم بتمحيص الدلالات اللغوية لألفاظ النص، مع وضعها فى سياقها التاريخى المعروف لحظة ميلاد النص، مستعينة فى ذلك بالأعمال التحضيرية التى سبقت ميلاد النص أو عاصرته، مستهدية بالأصل التاريخى له، وبالتطور الذى طرأ عليه منذ ظهوره فى اللحظة الأولى وحتى تشكله فى وضعه الراهن[28].
فعند تعدد تفسيرات نص ما، تعين تأويل النص، بكافة الوسائل المعتبرة فى التفسير، بما يعصمه من التعارض مع النصوص الدستورية. ولا يجوز التوسع أكثر من ذلك فى تفسير مجال إعمال تلك المادة ـ مثلما هو الحال مع وقائع تلك الدعوى ـ لأنها بذلك تتعارض مع باقى المواد المنظمة لاختصاص القضاء العسكرى، فضلاً عن وقوعها ـ المادة 48 ـ فى حمأة المخالفة الدستورية بصريح نص المادة 50 من الإعلان الدستورى سالف الإشارة إليها.
وكما قضت محكمتنا الدستورية العليا[29] بأن”الأصل فى النصوص التشريعية، هو ألا تحمل على غير مقاصدها، وألا تفسر عباراتها بما يخرجها عن معناها، أو بما يؤول إلى الالتواء بها عن سياقها، أو يعتبر تشويهاً لها سواء بفصلها عن موضوعها أو بمجاوزتها الأغراض المقصودة منها، ذلك أن المعانى التى تدل عليها هذه النصوص والتى ينبغى الوقوف عندها، هى تلك التى تعتبر كاشفة عن حقيقة محتواها، مفصحة عما قصده المشرع منها، مبينة عن حقيقة وجهته وغايته من إيرادها، ملقية الضوء على ما عناه بها، ومرد ذلك أن النصوص التشريعية لا تصاغ فى الفراغ، ولا يجوز انتزاعها من واقعها محدداً بمراعاة المصلحة المقصود منها، وهى بعد مصلحة اجتماعية يتعين أن تدور هذه النصوص فى فلكها، ويفترض دوماً أن المشرع رمى إلى بلوغها متخذاً من صياغته للنصوص التشريعية سبيلاً إليها. ومن ثم تكون هذه المصلحة الاجتماعية غاية نهائية لكل نص تشريعى، وإطاراً لتحديد معناه؛ وموطنا لضمان الوحدة العضوية للنصوص التى ينتظمها العمل التشريعى، بما يزيل التعارض بين اجزائها، ويكفل اتصال أحكامها وتكاملها وترابطها فيما بينها، لتعدو جميعها منصرفة إلى الوجهة عينها التى ابتغاها المشرع من وراء تقريرها”.
وعلى ذلك فإنه وبخصوص هذا الطلب الإحتياطى يحق لنا طلب القضاء بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 فيما لم يتضمنه من النص على قصر سلطة تقرير الإختصاص فقط فى الجرائم العسكرية البحتة. ليضحى نص المادة فى هذه الحالة:
“السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم العسكرى داخلاً فى اختصاصها أم لا”
ولا يسعنا ونحن بصدد ختام تلك العريضة أن نقتبس من هذا المرجع القيم للمستشار الجليل الدكتور عوض المر من أنه “ثمة حقيقة لا مراء فيها، هى أن حقوق الإنسان وحرياته ـ سواء فى توجهاتها أو فى القيم التى تكرسها ـ تغدو سراباً، إذا لم تكفل النظم القانونية التى تحيط بها ـ إطاراً فعالاً لضمانها ـ شأن حقوق الأفراد فى ذلك، شأن التزاماتهم. ذلك أن إهمال تنفيذها جبراً على من ينازعون فيها أو يتنصلون من إيفائها، يحيلها أشباحاً نبصرها، ولا نقبض بأيدينا عليها”.
وأيضاً أن ننوه إلى تعليقه بأن “ما نص عليه قانون القضاء العسكرى؛ من أن تفصل السلطات القضائية العسكرية وحدها بما فيها النيابة العسكرية فيما يدخل فى اختصاصها أو لا يدخل، يدل على إستخفاف العسكريين بالمدنيين؛ وبالنظم التى تحكمهم[30]“.
والابتناء على ما تقدم جميعه
تضحى نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 والتى نصت على أن “السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم داخلاً فى اختصاصها أم لا”، تشكل إنتقاصاً من النظام الديمقراطى للدولة من حيث قيامها على أساس المواطنه؛ وانتهاكاً لمبدأ أن الشعب هو مصدر السلطات، مما يقطع بعلو السلطة المدنية على السلطة العسكرية، وهى أيضاً تمثل إخلالاً بمبدأ مساواة المواطنين أمام القانون، مُعطلةً مبدأ خضوع الدولة للقانون، ومُعوقةً لحق التقاضى، ومُوهنةً من استقلال السلطة القضائية، مُنتقصةً دون ضرورة ملجئة من اختصاص القضاء العادى، مُعتديةً على السلطة التشريعية المفوضة من الدستور بتحديد اختصاصات الهيئات القضائية.
مما يعنى مخالفتها لنصوص المواد أرقام 1 ، 3 ، 7 ، 20 ، 21 ، 46 ، 50 ، 51 من الإعلان الدستورى الصادر فى 30 /3 /2011 والمنشور بالجريدة الرسمية فى العدد 12 مكرر (ب).
فإننا نلتمس تحدد أقرب جلسة لنا لتحضير الدعوى أمام هيئة مفوضى المحكمة الدستورية العليا، حيث أن نجل الطاعن محكوم عليه بعقوبة جناية وهو ما له ضرر بالغ فى مباشرة حقوقه السياسية وتأثير سلبى على الإضطلاع بحقه فى العمل، وهو الأمر الذى يترتب عليه وقف نظر الدعوى أمام محكمة القضاء الإدارى بشأن الطعن ببطلان قرار إحالته للقضاء العسكرى، على فصل قضاء المحكمة الدستورية العليا بشأن تلك الدعوى فى طلباتنا الآتية:
أولاً: وبصفة أصلية
نطلب القضاء بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966.
ثانياً: وبصفة إحتياطية
نطلب القضاء لنا بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون القضاء العسكرى رقم 25 لسنة 1966 فيما لم يتضمنه من النص على قصر سلطة تقرير الإختصاص فقط فى الجرائم العسكرية البحتة. ليضحى نص المادة فى هذه الحالة:
“السلطات القضائية العسكرية هى وحدها التى تقرر ما إذا كان الجرم العسكرى داخلاً فى اختصاصها أم لا”
وكلاء الطاعن
طاهر عطية أبو النصر
خالد على عمر، وأحمد حسام
المحامون
[1] الحصر الصادر عن هيئة القضاء العسكرى عن عملها خلال تلك الفترة، ومنشور بجميع الجرائد اليومية بتاريخ 6 /9 /2011، وألقاه رئيس هيئة القضاء العسكرى “اللواء/ عادل مرسى” بمؤتمر صحفى أذيع على العديد من وسائل الإعلام المرئية، ويمكن مراجعة موقع بوابة الأهرام بشأن ذلك على الرابط التالى: http://bit.ly/p5Pf9A
[2] المستشارالدكتور/ عمرو على نجم ـ رسالة دكتوراه “دستورية القضاء العسكرى بين الإطلاق والتقييد” ـ ط 2006، دار النهضة العربية، صـ 21.
[3] د/ محمود محمود مصطفى “الجرائم العسكرية فى القانون المقارن”، ط 1976، صـ 28 ،55.
[4] المستشار الدكتور/ عوض المر الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا، “الرقابة القضائية على دستورية القوانين فى ملامحها الرئيسية”، مركز رينيه ـ جان دبوى للقانون والتنمية ـ صـ 1025.
[5] ويقابل تلك المواد من دستور 1971 المواد أرقام (1 /1 ، 3 ، 40 ، 67 ، 68 ، 165 ، 167 ، 183).
[6] المحكمة العليا هى الأسبق وجوداً على المحكمة الدستورية العليا.
[7] يراجع حكمى المحكمة العليا فى الطعن رقم 12 لسنة 5ق دستورية بجلسة 3 /4 /1976، كذا الطعن رقم 1 لسنة 7ق دستورية بجلسة 6 /11 /1976.
[8] يراجع حكم المحكمة الإدارية العليا فى الطعن رقم 239 – لسنــة 32ق.ع – تاريخ الجلسة 28 12 1985.
[9] يراجع حكم محكمة القضاء الإدارى فى الطعن رقم 763 ـ لسنة 47ق ـ تاريخ الجلسة 8 /12 /1992.
[10] يراجع فى هذا المعنى د/ سامى جمال الدين ـ اللوائح الإدارية وضمانات الرقابة القضائية ـ صـ 129 ، 130.
[11] م.د/ عمرو على نجم، مرجع سابق، ص 347.
[12] المستشار الدكتور/ عوض المر الرئيس الأسبق للمحكمة الدستورية العليا، مرجع سابق ـ صـ 971.
[13] يراجع فى ذلك مضبطة الجلسة رقم (34) فى 28 مايو 1972 وملاحقها.
[14] يراجع مضبطة الجلسة رقم (63) فى 21 يونيه سنة 1975.
[15] تقرير اللجنة المشتركة المعقودة بجلسة 4 يونيه 1975.
[16] يراجع الطعن رقم 13 لسنة 41ق نقض جنائى جلسة 20 /6 /1973، والطعن رقم 618 لسنة 43ق نقض جنائى جلسة 1 /10 /1973، والطعن رقم 1715 لسنة 44ق نقض جنائى جلسة 30 /12 /1974، والطعن رقم 112 لسنة 48ق نقض جنائى جلسة 24 /4 /1978، والطعن رقم 3588 لسنة 50ق نقض جنائى جلسة 14 /5 /1981، والطعن رقم 1494 لسنة 51ق نقض جنائى جلسة 10 /11 /1981، والطعن رقم 1916 لسنة 56ق نقض جنائى جلسة 17 /4 /1986.
[17] يراجع الطعن رقم 4442 لسنة 56ق نقض جنائى جلسة 10 /12 /1986، والطعن رقم 584 لسنة 58ق نقض جنائى جلسة 12 /4 /1988، والطعن رقم 6093 لسنة 58ق نقض جنائى جلسة 28 /1 /1990، والطعن رقم 15660 لسنة 61ق نقض جنائى جلسة 20 /4 /1993.
[18] يراجع الطعن رقم 4716 لسنة 56ق نقض جنائى جلسة 4 /2 /1987.
[19] يراجع الطعن رقم 30909 لسنة 59ق نقض جنائى جلسة 4 /11 /1997.
[20] م.د/ عوض المر، مرجع سابق، صـ 996.
[21] المستشار الدكتور/ عوض المر، مرجع سابق، صـ 982 ، 983 ، 984.
[22] د/ أحمد فتحى سرور، الوسيط فى قانون الإجراءات الجنائية ، الجزء الأول، صـ 91ـ92.
[23] د/ مأمون سلامة، قانون الأحكام العسكرية، طبعة 1984، صـ 388.
[24] د/ محمد محمود سعيد، قانون الأحكام العسكرية معلقاً عليه، طبعة 1987، ص 164 ـ 165.
[25] د/ محمود محمود مصطفى، مرجع سابق، الجزء الثانى، صـ 53.
ويراجع بشأن إجماع الفقه ـ مشار إلى ذلك د/ عمرو على نجم، مرجع سابق، صـ 844 ـ بعدم دستورية المادة (48) من قانون القضاء العسكرى؛ د/ جمال العطيفى “آراء فى الشرعية وفى الحرية”، ط 1980 صـ 443، ود/ ثروت عبد العال “الحماية القانونية للحريات العامة بين النص والتطبيق”، صـ 177،وأيضاً د/ ماجد راغب الحلو “النظم السياسية والقانون الدستورى”، ط 2000 صـ 785
[26] يراجع بشأن الرقابة الدستورية على إغفال المشرع، د/ عوض المر ـ “مرجع سابق”، صـ 1416.
[27] يراجع م.د/ محمد عماد النجار “قضاء عدم الدستورية الشرطى”، منشور بمجلة الدستورية العدد السابع عشر السنة الثامنة أبريل 2010، صـ 27.
[28] يراجع تقرير هيئة مفوضى المحكمة الدستورية العليا، الذى أعده السيد المستشار/ حاتم حمد بجاتو، بشأن طلب التفسير رقم 1 لسنة 32 قضائية تفسير، صـ23.
[29] الطعن رقم 1 – لسنــة 15 ق. دستورية تفسير- تاريخ الجلسة 30 01 1993 – مكتب فني 5 – رقم الجزء 2 – رقم الصفحة 417.
[30] د/ عوض المر، مرجع سابق، بهامش صفحة رقم 1025.