رابط المقال الأصلي على موقع مجلة فورين بوليسي
تستقبل الحكومة المصرية في عطلة هذا الأسبوع مبعوثين من جميع أنحاء العالم في مدينة شرم الشيخ السياحية لحضور مؤتمر استثمار وصفه وزير الاستثمار المصري أشرف سالمان بأنه “العمود الفقري” للنمو الاقتصادي المصري المستقبلي. وطبقا لتقارير واردة، فإن الحكومة المصرية تنوي استخدام المؤتمر لإطلاق برنامج جديد للتنمية الاقتصادية، بينما يستمع الحضور لعروض تقديمية تتناول نطاقا واسعا من المشروعات الاستثمارية.
وفي إطار التحضير للمؤتمر، قامت الحكومة المصرية بدفعة كبيرة للعلاقات العامة، حيث تحدثت عن البلاد بصفتها وجهة صديقة للأعمال. وكتب سالمان في (وول ستريت جرونال) الأسبوع الماضي طارحا فكرة أن الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية والتنظيمية التي تقوم بها الحكومة تمثل في مجموعها “ما يصل إلى ثورة هادئة” في الاقتصاد. ولكن لا توجد الكثير من السمات التي تميز هذه الإصلاحات عن النموذج الاقتصادي الفاشل الذي شهدته مصر في الماضي، والذي لم يحقق إلا تدعيم الفقر والبطالة وعدم المساواة والظلم الاجتماعي على الرغم من النمو الاقتصادي المبهر.
يبدو في الواقع أن مصر مستمرة في تجاهل معاهدات حقوق الإنسان الدولية التي صدقت عليها والتي تلزمها بتخصيص “أقصى الموارد المتاحة” لتعزيز الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. وتفرض هذه الحقوق، التي يضمن الكثير منها الدستور المصري، التزامات خاصة بالرعاية الصحية والتعليم والعمل الكريم والسكن المناسب والضمان الاجتماعي. إنها تمثل تطلعات الشعب المصري لدولة لدى الجميع فيها فرصة الحصول على حياة كريمة.
إن الحرمان واسع النطاق من هذه الحقوق كان في قلب الهتافات “عيش، حرية، عدالة اجتماعية” التي ميزت التحرك الشعبي الذي أسقط الرئيس الأسبق حسني مبارك، كما أنها سمة مستمرة يتصف بها عدم الرضا الشعبي منذ ذلك الحين. ولكن فشلت الحكومة المصرية الحالية، مثلها في ذلك مثل الإدارات التي أتت قبلها، في فرض الإصلاحات اللازمة لتحقيق هذه الحقوق الأساسية.
أولا، فشلت إصلاحات الحكومة في التعامل مع الفساد المستشري في مصر، بل هي في الغالب تصب في إضعاف جهود مساءلة الشركات وشفافيتها. ويقع الدور الاقتصادي الضخم للجيش في القلب من مشكلة الفساد في مصر، حيث يتلقى عقود إنشاءات تقدر بمليارات الدولارات دون إشراف عام على عملية العطاءات والتقييم. وتتمثل أحد المشاكل الأخرى في التركيز على المشاريع الضخمة للبنية التحتية والتي لا يكاد يتم التدقيق فيها. ويحظى مشروع تنمية محور قناة السويس باهتمام خاص، وهو عبارة عن خطة متسارعة لتنمية مركز دولي للصناعة واللوجستيات في منطقة قناة السويس. وتساءل المعلقون عن الجدوى الاقتصادية والعوائد المنتظرة من هذا المشروع، ولكن لا حاجة بنا للقول إن العمل فيه مستمر على قدم وساق.
وللأسف فإن التشريعات الجديدة التي دفعت بها الحكومة ستزيد من سهولة انخراط المسؤولين في مثل تلك الممارسات التي تتصف بالفساد والإثراء. وعلى سبيل المثال، يمنع قانون شرع في أبريل 2014 الأطراف الثالثة من الطعن على عقود الدولة. ويتم الدعاية لهذا القانون الذي يطبق بأثر رجعي على أنه وسيلة لقطع الشريط الأحمر، ولكنه فعليا سيصب في إبطال أحكام القضاء التي ألغت عقودا فاسدة عقدت في الماضي، بينما يضعف بشدة قدرة الشعب على ممارسة الإشراف على العقود المستقبلية.
[pullquote]حكومة مصر الحالية فشلت في فرض الإصلاحات اللازمة لتحقيق هذه الحقوق الأساسية.[/pullquote]
ووافق مجلس الوزراء بتاريخ 4 مارس على قانون الاستثمار الجديد، والذي ما يزال بانتظار التوقيع النهائي للرئيس عبد الفتاح السيسي. ويقدم القانون للمستثمرين إجراءات حمائية وحوافز إضافية – كما يطبق آلية جديدة لفض المنازعات بمعزل عن القضاء المصري. ولا يقتصر ذلك على منح حصانة شاملة للمستثمرين والمسؤولين في الدولة عند تعاملهم مع الأموال العامة، بل يلغي أيضا إجراءات المشتريات القائمة، ويمكن مسؤولي الدولة من بيع الممتلكات العامة وتأجيرها والتصرف فيها للأغراض الاستثمارية بالأمر المباشر دون اللجوء إلى المناقصات والعطاءات العامة. وعلاوة على ذلك، يسمح قانون الاستثمار الجديد لمسؤولي الدولة بتسليم الممتلكات العامة إلى المستثمرين مجانا لفترة تصل إلى خمسة أعوام لأغراض “تنموية”.
وفي هذه الأثناء، يفتح قانون الإفلاس الجديد طريقا للهروب أمام المستثمرين الذين يودون التخلي عن المشاريع الفاشلة. وفي دولة تعاني من الفساد المنظم، تعتبر قوانين الاستثمار الجديدة هذه بمثابة ضوء أخضر للمزيد من إهدار الأموال العامة.
الشق الثاني والأكثر أساسية يتمثل في كون توجه الحكومة نحو التنمية يؤيد نموذجا عفى عليه الزمن يتبنى اقتصاديات التدرج التي تقدم أقل القليل للعدد المتنامي من المصريين الذين يعيشون في فقر. وتخفق الإصلاحات المصرية في إقامة رابط بين الاستثمار الأجنبي وحاجات السكان، فطبقا للبنك المركزي المصري توجهت 74.3 في المائة من إجمالي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر في النصف الأول من السنة المالية 2013-2014 إلى قطاعي البترول والنفط، بينما بلغ نصيب التصنيع والزراعة مجتمعين أقل من اثنين في المائة. وحقيقة أن هذا التركيز للاستثمار على النفط والبترول صاحبه كارثة كبرى للطاقة لهو أمر يلقي الضوء على التباين بين الاستثمار والاستهلاك في مجال الطاقة.
ولا يستنتج من ذلك أن على مصر التصرف دون الحاجة للاستثمار الأجنبي المباشر، بل تتلخص النقطة في فشل الدولة المستمر في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إلى القطاعات التي تكثر فيها احتمالات خلق فرص العمل ودفع التنمية. ويجب أن يمثل الاستثمار في التصنيع والخدمات والزراعة أولوية في بلاد يستمر فيها تراوح نسب البطالة بين الشباب حول ثلاثين في المائة. وبينما مثلت الاستثمارات في المجالات الجديدة أقل من ربع الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر في الفترة من 2013 إلى 2014، فإن الاستثمار غير المباشر في حافظات الأوراق المالية (في الأسهم والسندات) بلغ ثلث الاستثمار الأجنبي المباشر. وقد يساعد ذلك على شرح فشل النمو السريع في القطاع المالي في الانعكاس على انخفاض معدلات الفقر أو البطالة. وعليه، توجد حاجة ماسة لسياسة استثمارية تربط الحوافز والامتيازات الضريبية لقطاعات معينة وكذلك الصناعات كثيفة العمالة، بدلا من توفير امتيازات شاملة لكل التدفقات الرأسمالية الأجنبية إلى الداخل.
ولا يوجد من الأسباب ما يدعو لافتراض وصول الدخل الناتج عن هذه الموجة الجديدة من الاستثمار الأجنبي إلى حيث تبلغ الحاجة إليها أقصاها، ألا وهي الخزينة العامة. ويزيد نظام الضرائب التنازلية المصري من ترجيح وصول معظم الدخل إلى جيوب النخبة الثرية، حيث تمثل ضرائب الدخل على الشركات أقل نصيب في القاعدة الضريبية في مصر بنسبة حوالي 12.8 في المائة بين عامي 2012 و2013. وعلى الجانب الآخر، تبلغ الضرائب القائمة على الاستهلاك بما لها من آثار غير متناسقة على الأسر الأقل فقرا حوالي خمسي القاعدة الضريبية. ولكن الحكومة في رهانها على جذب الاستثمار تعرض المزيد من خفض الضرائب والدعم على المستثمرين: فسوف تستفيد الشركات الآن، كل حسب نشاطها، من إعفاءات من الضرائب المفروضة على العقود والوثائق القانونية الأخرى. وقللت الحكومة مؤخرا معدل الضريبة على دخل الشركات والدخل الشخصي من 30 إلى 22.5 في المائة. وتسهل هذه السياسات مجتمعة على المستثمرين تفادي ضرائب الشركات، مما يحد بشدة من قدرة الحكومة على تأمين الموارد اللازمة للاستثمار في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ويغذي عدم المساواة.
[pullquote align=”right”]ليس من شك في حاجة مصر لثورة اقتصادية – وأن الاستثمار الأجنبي قد يساهم فيها.[/pullquote]
إن الإصلاحات الاقتصادية للحكومة، التي تلقت ختما بالموافقة من صندوق النقد الدولي، تمنح وعودا كاذبة بتلبية الحاجة إلى “النمو الشامل”. ولكن تدابير التقشف القاسية كان لها موقعا مركزيا من الإصلاحات، وهي تدابير تؤثر بشكل غير متوازن على أقل من يقدرون على تحملها. وركزت الحكومة طاقاتها مؤخرا على إصلاح الدعم المكلف للغذاء والوقود في مصر. ومن الصحيح أن نسبة كبيرة من الدعم لا تستهدف الفقراء بشكل مناسب، ولكن حتى الآن قامت الحكومة بخفض الدعم دون القيام بتقييم هادف للآثار السلبية على حقوق السكان جراء ذلك، كما يجري التخطيط للمزيد من الاستقطاعات عام 2016، ولم يقدم المسؤولون أيضا خططا شاملة للحد من آثار ذلك. وأوصى البنك الأفريقي للتنمية بوجوب قيام الحكومة بتخصيص من 30 إلى 40 في المائة من الموارد المسترجعة عبر الاستقطاعات من الدعم لتعويض الفقراء والفئات الضعيفة. ومع قيام صندوق النقد الدولي بتشجيع الحكومة على نشر خطط تحويل النقد لحماية الفقراء، فقد تباطأت الجهود المبذولة لتطبيق مثل هذه التحويلات.
وعلاوة على ذلك، تستمر موازنة 2014-2015 في التوجه إلى ضعف التمويل الإجمالي للقطاع الاجتماعي. ويفرض دستور عام 2014 تزايد الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبحث العلمي، ولكن على الرغم من ذلك فإن توجه الحكومة يتصف بالإبداع المحاسبي – وذلك بتوسيع تعريف مصروفات الصحة والتعليم لتشمل تلك التي تنفقها وزارات أخرى. وليس واضحا ما قد تصاحب أي زيادة في الموازنة من إصلاحات لتحسين تقديم الخدمات العامة في هذين القطاعين.
إن الابتعاد عن نموذج التنمية الفاشل الذي ينتمي للماضي والتحرك نحو نموذج يولي أولوية لازدهار المصريين العاديين لا تقتصر أهميته على ضمان تحقيق التنمية المستدامة، بل يعتبر أيضا التزاما بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان طبقا لتأكيدات اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الأمم المتحدة عام 2013، وكذلك آلية الاستعراض الدولي الشامل التي يطبقها مجلس حقوق الإنسان مؤخرا.
وليس من شك في حاجة مصر لثورة اقتصادية – وأن الاستثمار الأجنبي قد يساهم فيها. إن التزامات حقوق الإنسان التي تعهدت مصر بتنفيذها توفر توجيها لما يبدو عليه الإصلاح الاقتصادي الثوري الحقيقي في البلاد.
تولي الثورة الاقتصادية القائمة على الحقوق أولوية لتعزيز الإطار التنظيمي في مصر، وذلك لضمان عدم خرق المستثمرين الأجانب لحقوق الإنسان والمعايير البيئية. ويستمر الفساد في حرمان البلاد من الموارد التي تشتد الحاجة إليها، لذا فإن تدابير الحد من الفساد على درجة قصوى من الأهمية. وعلى الرغم من كون مكافحة الفساد صعبا على ضرورته، فإنه يتطلب المزيد من الشفافية من جانب الحكومة. ومن الضروري التراجع عن بنود معينة تضمن “حماية المستثمرين”، خاصة تلك التي تعيق الأطراف الثالثة من الطعن على عقود الاستثمار أمام القضاء.
ويعيد مثل هذا التوجه توجيه السياسة الاقتصادية نحو تلبية الحاجات التنموية للبلاد، خاصة في قطاعي الإنتاج الغذائي والتصنيع الذين يشتد عليهما الضغط. ويتعين على السياسات التي تركز على التنمية أن تهدف إلى تشجيع الاستثمارات في المجالات الجديدة، خاصة في القطاعات الإنتاجية، وهو ما يزيد فرص العمل ويعزز نمو القيمة المضافة. إن المشاريع الكبرى التي تفشل في تقديم آثار هادفة تتطلب كذلك إصلاح النظام الضريبي التنازلي في مصر.
وفوق كل شيء، تستلزم الثورة الاقتصادية القائمة على الحقوق مساءلة كافة الأطراف المعنية، بما في ذلك المستثمرين والمقرضين والمانحين والمؤسسات المالية الدولية، وهي أطراف يفترض أن يكون لديها دوافع واضحة لدعم تلبية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وإن أراد حقا من يتجمعون في شرم الشيخ في عطلة هذا الأسبوع أن يقوموا باستثمار هادف في مصر، فعليهم وضع ذلك في اعتبارهم.
12 مارس 2015
رابط المقال الأصلي على موقع مجلة فورين بوليسي
* حقوق الصورة: محمود خالد/وكالة الأنباء الفرنسية/غيتي إيماجيز